259
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
258

من ألفاظ الكتاب كقوله : «أشركتك في أمانتي ، وجعلتك بطانتي وشعاري ، وأنه لم يكن في أهلي رجل أوثق منك» . وقوله : «على ابن عمّك قد كلب» ، ثم قال ثانيا : «قلبتَ لابن عمّك ظهر الِمجَنّ» ، ثم قال ثالثا : «ولا ابن عمك آسيت» ؛ وقوله : « لا أبا لغيرك » ، وهذه كلمة لا تقال إلاّ لمثله ، فأمّا غيره من أفناء الناس ، فإنّ علياً عليه السلام كان يقول : لا أبا لك .
وقوله : « أيها المعدود كان عندنا من أولي الألباب » . وقوله : « لو أنّ الحسن والحسين عليهماالسلام » ، وهذا يدلّ على أنّ المكتوب إليه هذا الكتاب قريب من أن يجري مجراهما عنده .
وقال آخرونَ وهم الأقلون : هذا لم يكن ، ولا فارق عبدُ اللّه بن عباس عليّا عليه السلام ، ولا باينه ولا خالفه ، ولم يزل أميرا على البصرة إلى أن قتل عليّ عليه السلام . وهذا عندي هو الأمثل والأصوب .
وقد قال الراوندي : المكتوب إليه هذا الكتاب هو عبيد اللّه بن العباس ، لا عبد اللّه .
وليس هذا بصحيح ؛ فإنّ عبيد اللّه كان عامل علي عليه السلام على اليمن ، ولم ينقل عنه أنّه أخذ مالاً ، ولا فارق طاعة .
وقد أشكل عليَّ أمرُ هذا الكتاب ، فإن أنا كذّبت النقل وقلتُ : هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين عليه السلام ، خالفتُ الرواة ، فإنهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه ، وقد ذكِر في أكثر كتب السيَر . وإن صرفته إلى عبد اللّه بن عباس صدني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وبعد وفاته . وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى مَنْ أصرفه من أهل أمير المؤمنين عليه السلام ؛ والكلامُ يشعر بأنّ الرجل المخاطب من أهله وبني عمه ، فأنا في هذا الموضع من المتوقّفين ۱ !

1.إنّ هذه القصة كانت مسرحاً لاصطراع المؤرخين والرواة ، فمنهم المثبت لها ، ومنهم النافي ، ومنهم المتوقف في أمرها . وأقدم المثبتين لها الطبري ، وعنه أخذ مَن تأخّر عنه كابن الأثير وابن خلدون ، وصاحب العقد الفريد ، وحتى الكشي ، وقد بالغ بعضهم في المبلغ الذي حمله حتى أوصله بعضهم إلى ستة ملايين من الدراهم . اعتماداً على عدة رسائل تبودلت بين الإمام ، وابن عباس ، رواها شخص واحد وهذه الروايات رويت بأحاديث الآحاد ، ومثلها لا تبحث كذلك ، وقد نوقشت في أسانيدها . ولذا فلا يمكن الاطمئنان إليها ، لأنّ ذلك يعني تجاهل حال الوضاعين وتربصهم في ذلك الزمان له ، وتربّص المناوئين للعباسيين من شعراء وثوار ، وتجاهل لإغفال الأمويين كمعاوية وابن العاص ، وعدم تطرّق هؤلاء جميعاً لهذه الحادثة ، وأُمور أُخر لا يسع المجال لذكرها . مضافاً إلى سكوت أهل البيت عليهم السلام عن هذه القضية ، وعدم حدوث خلاف بين أحد منهم وبينه . كل هذه الأُمور تبعث على التشكيك أو التردد في الأخذ بهذا الرأي . وأمّا النافون ، فقد اعتمدوا على ما روي أنه رحمه الله بقي في البصرة إلى عهد الإمام الحسن الزكي عليه السلام ، وشهد الصلح معه . وأيدوا كلامهم ؛ بأنّ الإمام عليّاً عليه السلام ما كان يجتمع عنده في بيت المال لحاجته إلى الأموال ، وقد كان يفرّغ بيت مال الكوفة كل خمس ويرشّه [أمالي المرتضى ۱:۲۳ ، ط السعادة المصرية ] . والواقع أنّ النفي بهذا الشكل تأباه طبيعة البحث الموضوعي ، مع تعرض جملة من المؤرخين له ، مضافاً إلى أنّ القصّة وردت على لسان عبد اللّه بن الزبير في ملاحاة له مع ابن عباس ، وعدم إنكار الأخير له ، كما وردت على لسان قيس بن سعد . والحق أن نقول : إن يده امتدت إلى بيت المال بمبرر شرعي ووصل الخبر إلى الإمام عليه السلام عن طريق أبي الأسود الدؤلي ، وقد كتب الإمام عليه السلام إليه مؤنّباً ، ثم دارت بينهما بعض المراسلات ، انتهت بإرجاع ما أخذ من مال ، ثم رضي الإمام عنه ، وأبقاه على منصبه بالبصرة . دون أن يخدش ذلك في شخصيته ، أو في تديّنه وورعه ، ولا شك أنّ أخذه للمال كان بدافع الحاجة إليه ، ومن حقّه المكتوب له في الخمس . وهذا الأخذ للمال صحيح بعنوانه الأولي ، ثم أمَرَه الإمام عليه السلام بإرجاعه لطرو عنوان ثانوي ملزم ، كخوفه أنْ يدبّ التهامس بين الناس حول هذا الموضوع ، وعند إصرار الإمام أرجع الأموال ، وامتثل أمر إمامه . ففي مكارم الأخلاق للطبرسي ص۱۳۱ : « عن عبد اللّه بن عباس ، لما رجع من البصرة وحمل المال ودخل الكوفة ، وجد أمير المؤمنين عليه السلام قائماً في السوق ، وهو ينادي بنفسه ، معاشر الناس ، ... إلخ : فسلّمتُ عليه فردّ عليّ السلام ، ثم قال : يا ابن عباس ما فعل المال ؟ فقلتُ ها هو يا أمير المؤمنين ، وحملته إليه فقرّبني ورحّبَ بي ... » . وأمّا مقدار المال ، فلم يتجاوز العشرة آلاف درهم . ذكر ذلك اليعقوبي ۲:۱۸۱ . فأخذُ المال إذاً كان بحق ، وإرجاعه كان بحقٍّ أيضاً ، لطرو العنوان الثانوي كما ذكرنا ، وبعد هذا فلا سرقة ولا خيانة ، وبقي رحمه الله على منصبه في البصرة وهذا يدلّ على رضا إمامه عنه وصلاحه لما ينهض به . وقد صرّح في جوابه لابن الزبير : « وأمّا حملي المال ، فإنّه كان مالاً جَبيناه ، وأعطينا كلَّ ذي حق حقّه ، وبقيت بقيّة هي دون حقنا في كتاب اللّه ، فأخذنا بحقنا » ذكره ابن أبي الحديد في شرحه ۲۰:۱۳۱ وعلى أي فقد كانت له وجهة نظر لها أساس من الشرع ، كما صرّح به قيس بن سعد في خطبته ، برواية أبي الفرج الاصفهاني : (وهو يزعم أنها حلال) ، وظل ابن عباس وفياً لإمامه ولأبنائه من بعده ، واعتقاد إمامتهم ، وأي عبد لا تصدر منه زلة ؟ وإنما العبرة بالتوبة والإنابة وعدم الإصرار عليها . ومن أولى بذلك من حبر الأُمّة وربيب الإسلام . [انظر تفصيل ذلك في كتاب عبد اللّه بن عباس للعلامة السيد محمد تقي الحكيم ص۳۸۶ ـ ۴۰۲] .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 120965
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي