289
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

مِنْكَ ما تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ .
أَطْلِقْ عَنِ النَّاس عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ ، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ ، وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ ، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ .
وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بِخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ ، وَلاَ جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللّهِ .

الشّرْحُ:

أشنَأُهم عندك ، أبغَضُهم إليك . وتَغابَ : تغافَلْ ، يقال : تَغابى فلانٌ عن كذا . ويَضِح : يَظهَر ، والماضي وَضَح .
فأمّا قوله عليه السلام : «ولا تعجلنّ إلى تصديق ساعٍ» ، فقد ورد في هذا المعنى كلامٌ حَسَن ، قال ذو الرّياستين : قبول السِّعاية شرّ من السعاية ؛ لأنّ السعاية دلالة ، والقبول إجازة ، وليس مَنْ دلّ على شيء كمن قبله وأجازه .
قوله عليه السلام : «ولا تُدْخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفَضْل ، ويعدك الفقر» ، مأخوذٌ من قول اللّه تعالى : «الشَّيطانُ يَعِدُكم الفقرَ ويأمُرُكُمْ بالْفَحْشَاءِ واللّهُ يَعِدُكُمْ مَغفرةً منهُ وفَضْلاً» ؛ قال المفسّرون : الفَحْشاء هاهنا البُخْل ؛ ومعنى «يعدكم الفقر» ، يخيِّل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوّفكم فتخافون فتبخلون . «فإنّ البخلَ والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن باللّه » ؛ كلامٌ شريف عالٍ على كلام الحكماء ، يقول : إن بينها قَدْرا مشترَكا وإن كانت غرائز وطبائع مختلفة ، وذلك القدْر المشترك هو سوءُ الظنّ باللّه ، لأنّ الجبان يقول في نفسه : إن أقدمتُ قُتِلت ، والبخيلَ يقول : إن سمحتُ وأنفقتُ افتقرتُ ، والحريصَ يقول : إن لم أجدَّ وأجتهد وأدأب فاتنى ما أروم ؛ وكلّ هذه الأُمور ترجع إلى سوء الظنّ باللّه ، ولو أحسن الظنّ الإنسان باللّه وكانَ يقينه صادقا لعلم أنّ الأجل مقدّر ، وأنّ الرزق مقدَّر ، وأنّ الغنى والفقر مقدَّران ، وأنّه لا يكون من ذلك إلاّ ما قَضَى اللّه تعالى كونه .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
288

رِضَى الْعَامَّةِ . وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤونَةً فِي الرَّخَاءِ ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ ، وَأَكْرَهَ لِـلاْءِنْصَافِ ، وَأَسْأَلَ بِالاْءِلْحَافِ ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الاْءِعْطَاءِ ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ . وَإِنَّمَا عِمَادُ الدِّينِ ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْعُدَّةُ لِـلْأَعْدَاءِ ؛ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ ؛ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ .

الشّرْحُ:

قال له : أنصِف اللّهَ ، أي قُم له بما فَرَض عليك من العبادة والواجبات العقليّة والسمعيّة . ثمّ قال : وأنصِف الناس من نفسك ومن ولَدِك وخاصّة أهلِك ومَن تحبّه وتميل إليه من رعيّتك ، فمتى لم تفعل ذلك كنتَ ظالما .
ثمّ نهاه عن الظّلم ، وأكّد الوِصاية عليه في ذلك . ثمّ عرّفه أنّ قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامّة ، فإنّه لا مبالاة بسُخْط خاصّة الأمير مع رضا العامّة ، فأمّا إذا سخِطَت العامّة لم ينفعه رضا الخاصّة ، وذلك لأنّ هؤلاء ( الخاصة ) عنهم غنىً ، ولهم بدل ، والعامّة لا غنىً عنهم ولا بدل منهم ، ولأنّهم إذا شَغَبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج واضطرب ، فلا يقاومه أحد ، وليس الخاصّة كذلك .
ثمّ قال عليه السلام ـ ونِعمَ ما قال ـ : ليس شيءٌ أقلَّ نفعا ، ولا أكثرَ ضررا على الوالي من خواصّه أيّام الولاية ؛ لأنّهم يثقّلون عليه بالحاجات ، والمسائل والشّفاعات ، فإذا عُزِل هَجَروه ورَفَضوه حتّى لو لقوه في الطريق لم يسلّموا عليه . والصِّغو ، بالكسر والفتح ، والصّغا مقصور : الميْل .

الأصْلُ:

۰.وَلْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ ، وَأَشْنَأُهُمْ عِنْدَكَ ، أَطْلَبُهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاس ، فَإِنَّ في النَّاس عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا ، فَـلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ ، وَاللّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ ، فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ ؛ يَسْتُرِ اللّهُ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 152604
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي