خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَعَوَامِّهَا ؛ وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ ، فِيَما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ ، وَيُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ ، وَيَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ ، مَا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ .
ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ ، الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ . وَفِي اللّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ ، وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ . وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللّهُ تعالى مِنْ ذلِكَ ، إِلاَّ بِالاِهْتِمامِ وَالاسْتِعَانَةِ بِاللّهِ ، وَتَوْطِينَ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيَما خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ .
الشّرْحُ:
قالت الحكماء : الإنسانُ مَدَنيّ بالطّبع ، ومعناه أنه خُلِق خِلْقةً لابدَّ معها من أن يكون منضمّا إلى أشخاصٍ من بني جنسه ، ومتمدّنا في مكان بعينه ، وليس المراد بالمتمدّن ساكنَ المدينة ذات السّور والسّوق ، بل لابدّ أن يقيم في موضع مّا مع قوم من البَشَر ؛ وذلك لأنّ الإنسان مضطرّ إلى ما يأكله ويشرَبُه ليقيمَ صورتَه ، ومضطرّ إلى ما يلبسه ، ليدفع عنه أذى الحرّ والبَرْد ، وإلى مَسكَن يسكُنه ليردّ عنه عادَيةَ غيره من الحيوانات ، وليكون مَنزِلاً له ليتمكّن من التصرّف والحركة عليه ، ومعلومٌ أن الإنسان وحدَهُ لا يستقلّ بالأمور الّتي عددناها ، بل لابدّ من جماعة ، فيَحصلُ مساعدة بعض الناس لبعض ، لولا ذلك لما قامت الدنيا ، فهذا معنى قوله عليه السلام : «إنّهم طبقات لا يصلُح بعضُها إلاّ ببعض ، ولا غَناء ببعضها عن بعض» .
ثم فصّلهم وقسّمهم فقال : منهم الجند ، ومنهم الكتّاب ، ومنهم القُضاة ، ومنهم العمّال ، ومنهم أرباب الجزية من أهل الذمّة ، ومنهم أرباب الخراج من المسلمين ، ومنهم التجّار ، ومنهم أرباب الصّناعات . ومنهم ذوو الحاجات والمَسكَنة ، وهم أدوَن الطبقات .
ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال : الجند للحماية ، والخراجُ يُصرَف إلى الجند والقُضاة والعمّال والكتّاب لما يحكمونه من المعاقد ، ويجمعونه من المنافع ، ولابدّ لهؤلاء جميعا من التجّار لأجل البَيْع والشّراء الّذي لا غَناءَ عنه ، ولابدّ لكلٍّ من أرباب الصناعات كالحدّاد والنجّار والبنّاء وأمثالهم . ثمّ تلي هؤلاء الطبقة السفلى ، وهم أهل الفقر والحاجة الّذين تجب معونتُهم والإحسانُ إليهم .