297
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

الأصْلُ:

۰.ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاس أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِينَفْسِكَ ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ ، وَلاَ تَمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ، وَلاَ يَتََمادَى فِي الزَّلَّةِ ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ ، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ ؛ وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ ، وَأُولئِكَ قَلِيلٌ . ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيحُ عِلَّتَهُ ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاس ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ . فَانْظُرْ فِي ذلِكَ نَظَراً بِلِيغاً ، فَإِنَّ هذَا الدِّيْنَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى ، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا .

الشّرْحُ:

تمحِّكه الخصوم : تجعله ما حكاً ، أي لجوجا ، محك الرّجل ، أي لجّ ، وماحك زيد ، عمْرا ، أي لاجّه .
قوله : «ولا يتمادى في الزّلّة» ، أي إن زلّ رجع وأناب ، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل . قوله : «ولا يحصَر من الفيء» هو المعنى الأول بعينه ، والفيء : الرجوع ، إلاّ أنّ هاهنا زيادة ، وهو أنّه لا يحصَر ، أي لا يعيا في المنطق ؛ لأنّ مِن النّاس من إذا زلّ حصِر عن أن يرجع وأصابه كالفهاهة والعيّ خجلاً . «ولا تُشرِفُ نفسه» ، أي لا تشفق . والإشراف : الإشفاق والخوف . والمعنى : ولا تشفق نفسه ، وتخاف من فوت المنافع والمرافق . ثم قال : «ولا يكتفي بأدنى فهم» ، أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم ، بل يستقصي ويبحث أشدّ البحث .
قوله : «وأقلهم تبرُّما بمراجعة الخصم» ، أي تضجُّرا ، وهذه الخصلة من محاسن ما شرطه عليه السلام ، فإنّ القلق والضجر والتبرُّم قبيح ، وأقبح ما يكون من القاضي . «وأصرمهم» ، أي أقطعهم وأمضاهم . وازدهاه كذا ، أي استخفّه . والإطراء : المدح . والإغراء : التحريض .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
296

العرف» ؛ من هاهنا زائدة ؛ وإن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش ، أي جماع الكرم ، أي يجمعه كقوله النبي صلى الله عليه و آله وسلم : «الخمر جِمَاع الإثم» . والعُرْف : المعروف .
وكذلك «من» في قوله : «وشعَب من العُرْف» أي وشُعب العُرْف ، أي هي أقسامه وأجزاؤه ، ويجوز أن تكون «من» على حقيقتها للتبعيض ، أي هذه الخلال جملة من الكرم وأقسام من المعروف ؛ وذلك لأنّ غيرها أيضا من الكرم والمعروف ، نحو العدل والعفّة .
قوله : «ثم تفقَّدْ من أُمورهم» ، الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأُمراء لما سنذكره ممّا يدلّ الكلام عليه .
فإن قلت : إنه لم يَجْرِ للأجناد ذِكْرٌ فيما سبق ؛ وإنما المذكور الأُمراء!
قلت : كلاّ بل سبق ذكر الأجناد ، وهو قوله : «الضعفاء والأقوياء» .
وأمره عليه السلام أن يتفقّد من أُمور الجيش ما يتفقّد الوالدان من حال الوَلد ؛ وأمره ألاّ يعظِّم عنده ما يقوّيهم به وإن عظم ، وألاّ يستحقِر شيئا تعهّدهم به وإن قلّ ، وألاّ يمنعه تفقّدُ جسيم أُمورهم عن تفقد صغيرها . وأمره أن يكون آثر رؤوس جنوده عنده وأحظاهم عنده وأقربهم إليه مَنْ واساهم في معونته ؛ هذا هو الضمير الدالّ على أنّ الضمير المذكور أولاً للجُند لا لأُمراء الجند ؛ لولا ذلك لما انتظم الكلام .
قوله : «من خُلُوف أهليهم» ، أي ممن يخلفونه من أولادهم وأهليهم . ثم قال : لا يصحّ نصيحة الجند لك إلاّ بحيطتهم على ولاتهم ، أي بتعطّفهم عليهم وتحنُّنَهم ، وهي الحِيطَة على وزن الشِّيمة ، مصدر حاطه يحوطه حَوْطا وحياطة ، وحِيطة ، أي كلأه ورعاه ، وأكثر الناس يروونها إلاّ «بحيِّطتهم» بتشديد الياء وكسرها ، والصحيح ماذكرناه . «وقلّة استثقال دُوَلهم » ، أي لا تصحّ نصيحة الجُنْد لك إلاّ إذا أحبُّوا أُمراءهم ثم لم يستثقلوا دُوَلهم ؛ ولم يتمنّوا زوالَها .
ثم أمره أن يذكر في المجالس والمحافل بلاءَ ذوي البلاء منهم ؛ فإنّ ذلك مما يُرهِف عَزْم الشُّجَاع ويحرّك الجبان . قوله : «ولا تضمَّنَّ بلاءَ امرئٍ إلى غيره» ، أي اذكر كلَّ مَنْ أبلى منهم مفرَداً غير مضموم ذكرُ بلائه إلى غيره ، كي لا يكون مغمورا في جَنْب ذكر غيره . ثم قال له : لا تعظّم بلاء ذوِي الشرف لأجل شرفهم ، ولا تحقِر بلاء ذَوِي الضّعَة لضعة أنسابهم ، بل اذكر الأُمورَ على حقائقها .
ثم أمره أن يردّ إلى اللّه ورسوله ما يُضلعه من الخطوب ، أي ما يؤوده ويُميله لثقَله ، وهذه الرواية أصحّ من رواية من رواها بالظّاء ؛ وإن كان لتلك وجه .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 152273
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي