الأصْلُ:
۰.ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاس أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِينَفْسِكَ ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ ، وَلاَ تَمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ، وَلاَ يَتََمادَى فِي الزَّلَّةِ ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ ، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ ؛ وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ ، وَأُولئِكَ قَلِيلٌ . ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيحُ عِلَّتَهُ ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاس ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ . فَانْظُرْ فِي ذلِكَ نَظَراً بِلِيغاً ، فَإِنَّ هذَا الدِّيْنَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى ، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا .
الشّرْحُ:
تمحِّكه الخصوم : تجعله ما حكاً ، أي لجوجا ، محك الرّجل ، أي لجّ ، وماحك زيد ، عمْرا ، أي لاجّه .
قوله : «ولا يتمادى في الزّلّة» ، أي إن زلّ رجع وأناب ، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل . قوله : «ولا يحصَر من الفيء» هو المعنى الأول بعينه ، والفيء : الرجوع ، إلاّ أنّ هاهنا زيادة ، وهو أنّه لا يحصَر ، أي لا يعيا في المنطق ؛ لأنّ مِن النّاس من إذا زلّ حصِر عن أن يرجع وأصابه كالفهاهة والعيّ خجلاً . «ولا تُشرِفُ نفسه» ، أي لا تشفق . والإشراف : الإشفاق والخوف . والمعنى : ولا تشفق نفسه ، وتخاف من فوت المنافع والمرافق . ثم قال : «ولا يكتفي بأدنى فهم» ، أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم ، بل يستقصي ويبحث أشدّ البحث .
قوله : «وأقلهم تبرُّما بمراجعة الخصم» ، أي تضجُّرا ، وهذه الخصلة من محاسن ما شرطه عليه السلام ، فإنّ القلق والضجر والتبرُّم قبيح ، وأقبح ما يكون من القاضي . «وأصرمهم» ، أي أقطعهم وأمضاهم . وازدهاه كذا ، أي استخفّه . والإطراء : المدح . والإغراء : التحريض .