313
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

فِيهَا ، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتَّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِيعَهْدِي هذَا ، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ ، لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا .

الشّرْحُ:

قد اشتمل هذا الفصلُ على وصايا نحنُ شارحوها :
منها قولُه عليه السلام : «إيّاك وما يُعجبك من نفسك ، والثّقة بما يُعجِبك منها» ؛ قد ورد في الخبر : «ثلاثٌ مُهلِكات : شُحٌّ مُطاع ، وهوىً متّبَع ، وإعجاب المرءِ بنفسه» .
وكان بعضُ الصّالحين يقول إذا أطراه إنسان : ليسألكَ اللّهُ عن حُسن ظنّك .
ومنها قولُه : «وإيّاك والمَنّ» ، قال اللّه تعالى : « يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنّ والأَذَى»۱ . وكان يقال : المَنّ محبّة للنفس ، مَفسَدة للصّنع .
ومنها نَهيُه إيّاه عن التزيّد في فعله ، قال عليه السلام : إنّه يَذهَب بنُور الحقّ ، وذلك لأنّه محض الكذب ، مِثل أن يسديَ ثلاثة أجزاء من الجميل ، فيدّعي في المجالس والمحافِل أنّه أسدَى عشرةً ، وإذا خالط الحقُّ الكذبَ أذهبَ نورَه .
ومنها نهيُه إيّاه عن خُلف الوَعد ، قد مدح اللّهُ نبيّا من الأنبياء وهو إسماعيل بنُ إبراهيمَ عليه السلام بصِدْق الوعد . وكان يقال : وعد الكريم نَقْد وتَعْجيل ، ووعدُ اللئيم مَطْل وتَعْطيل . وفي الحديث المرفوع : «عدَة المؤمن كأخذٍ باليد» ، فأمّا أميرُ المؤمنين عليه السلام فقال : « إنّه يوجب المَقْت» ، واستَشهَدَ عليه بالآية . والمَقْت : البُغض .
ومنها نهيُه عن العَجَلة ؛ وكان يقال : أصاب متثبّت أو كاد ، وأخطأَ عَجِل أو كاد . وفي المَثَل : «ربَّ عَجَلة تَهَبُ رَيْثاً» ، وذَمّها اللّه تعالى فقال : «خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَل»۲ .
ومنها نهيُه عن التّساقط في الشيء الممكن عند حضوره ، وهذا عبارةٌ عن النهي عن الحِرْص والجَشَع .
ومنها نهيه عن اللّجاجة في الحاجة إذا تعذّرت ؛ كأن يقال : مَن لاجّ اللّهَ فقد جعَلَه خصما ، ومن كان اللّه خصمَه فهو مخصوم ، قال الغزّي :
دعْها سماويّة تجري على قَدَرٍلا تُفْسِدَنْها برأيٍ منك مَعكوسِ
ومنها نهيُه له عن الوَهْن فيها إذا استوضحت أي وَضَحتْ وانكشفتْ ، ويُروَى : « واستُوضِحَتْ» فِعلُ ما لم يسمَّ فاعله ، والوَهْن فيها إهمالُها وتركُ انتهاز الفرصة .
ومنها نهيهُ عن الاستئثار ، وهذا هو الخُلُق النبويّ . غَنم رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله وسلم غنائمَ خَيْبر، وكانت مِل ءَ الأرض نعماً ، فلمّا ركب راحلتَه وسار تَبِعه الناسُ يطلبون الغنائم وقَسْمَها ، وهو ساكتٌ لا يكلّمهم ، وقد أكثروا عليه إلحاحاً وسؤالاً ، فمرّ بشجرة فخطفت رداءه ، فالتفتَ فقال : ردّوا عليّ ردائي ، فلو ملكت بعدد رَمْل تِهامةَ مَغنَماً لقسمتُه بينكم عن آخره ثمّ لا تجدونني بخيلاً ولا جبانا ، ونَزلَ وقَسمَ ذلك المالَ عن آخره عليهم كلّه ، لم يأخذ لنفسه منه وَبرَةً .
ومنها نهيُه له عن التّغابي ، وصورة ذلك أنّ الأمير يُومَى إليه أن فلانا من خاصّته يَفعل كذا ويَفعل كذا من الأُمور المنكرة ويرتكبُها سرّا ، فيتغابَى عنه ويَتغافل ، نهاه عليه السلام عن ذلك وقال : إنّك مأخوذٌ منك لغيرك ، أي معاقَب ، تقول : اللّهمّ خذ لي من فلان بحقّي ، أي اللّهم انتقِم لي منه .
ومنها نهيُه إيّاه عن الغضب ، وعن الحُكْم بما تقتضيه قوّتهُ الغضبيّة حتّى يسكن غضبُه . قد جاء في الخبر المرفوع : «لا يقضي القاضي وهو غَضْبان» ، فإذا كان قد نُهِيَ أن يقضيَ القاضي وهو غَضْبان على غير صاحبِ الخصومة ، فبالأوْلى أن يُنهَى الأميرُ عن أن يَسطوَ على إنسان وهو غَضبان عليه .

1.سورة البقرة ۲۶۴ .

2.سورة الأنبياء ۳۷ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
312

وكلامُ أمير المؤمنين عليه السلام يدلّ على أنّ المؤدّب من الوُلاة إذا تَلِف تحت يده إنسان في التأديب فعليه الديّة .

الأصْلُ:

۰.وَإِيَّاكَ وَالاْءِعْجَابَ بِنَفْسِكَ ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَحُبَّ الاْءِطْرَاءِ ؛ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَص الشَّيْطَانِ فِينَفْسِهِ ، لَِيمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ المحُسِنِينَ .
وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيَما كَانَ مِنْ فِعْلِكَ ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الاْءِحْسَانَ ، وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ ، وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللّهِ وَالنَّاسِ . قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى : «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ»۱ .
وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا ، أَوِ التَّساقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا ، أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذا تَنَكَّرَتْ ، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إذَا اسْتَوْضَحَتْ . فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ .
وَإِيَّاكَ وَالاِْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ ، فَإِنَّهُ مَأَخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ . وَعَمَّا قَلَيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ ، وَيُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ . امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ ، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ ، وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ ، فَتَمْلِكَ الاِْخْتِيَارَ . وَلَنْ تَحْكُمَ ذلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ .
وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فاَضِلَةٍ ، أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه و آله وسلم ، أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ، فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ

1.سورة الصف ۳ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 120966
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي