457
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا ، أَمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ ، أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ ؟ أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى ؟ كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ ، وَكَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ ! تَبْتَغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْأَطِبَّاءَ ، غَدَاةَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ ، وَلاَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤكَ ! لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ ، وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطِلْبَتِكَ ، وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ ! وَقَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ ، وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ .
إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا ، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا ، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا ، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا . مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللّهِ ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللّهِ ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ اللّهِ ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللّهِ ؛ اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ ، فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا ، وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا ، وَنَادَتْ بِفِراقِهَا ، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا الْبَلاَءَ ، وَشَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ ! رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ ، وَابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ ، ترغِيباً وَتَرْهِيباً ، وَتَخْوِيفاً وَتَحْذِيراً ، فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَتَذَكَّرُوا ، وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا ، وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا .

الشّرْحُ:

تجرّمتُ على فلان : ادّعيتُ عليه جُرْما وذنبا ؛ واستهواه كذا : استَزَلّه .
وقولُه عليه السلام : «فمثّلتْ لهم ببلائها البلاء» ، أي بلاءَ الآخرة وعذابَ جهنّم ، وشوّقَتْهم بسرورها إلى السرور ، أي إلى سُرورِ الآخرة ونعيمِ الجنّة .
وهذا الفصل كلّه لمدح الدنيا ، وهو ينبئ عن اقتدارِه عليه السلام على ما يريد من المعاني ؛ لأنّ كلامَه كلَّهُ في ذمّ الدنيا ، وهو الآن يَمدَحها وهو صادقٌ في ذاك وفي هذا ؛ وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و آله وسلمكلام يتضمّن مدحَ الدنيا أو قريبا من المَدْح ، وهو قولُه عليه السلام : «الدّنيا حُلوةٌ خَضِرة ، فمن أخَذَها بحَقّها بُورِك له فيها» .
ومن الكلام المنسوبِ إلى عليّ عليه السلام : «الناسُ أبناءُ الدّنيا ، ولا يلامُ المرء على حبِّ أمِّه»،


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
456

هذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا ، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ ۱ ؟
ثم التفت إلى أَصحابه فقال :
أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَـلاَمِ ، لَأَخْبَرُوكُمْ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى .

الشّرْحُ:

الفَرَط : المتقدِّمون . وقد جاء في حديث القبور ومخاطبتِها وحديثِ الأموات وما يتعلّق بذلك شيءٌ كثير يَتجاوَز الإحصاء .
وفي وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم أبا ذَرّ رضى الله عنه : زُر القبورَ تَذكُرْ بها الآخرة ولا تَزُرها ليلاً ، وغَسِّل الموتى يتحرّكْ قلبُك ، فإنّ الجسد الخاوِي عِظةٌ بليغة ، وصلِّ على الموتى فإن ذلك يُحزِنْك ، فإنّ الحَزين في ظِلّ اللّه .
وُجِد على قبرٍ مكتوبا :

مقيمٌ إلى أن يَبعثَ اللّهُ خَلْقَهُلقاؤُكَ لا يُرجَى وأنت رقيبُ
تَزِيدُ بِلىً في كلِّ يومٍ وليلةٍوتُنسَى كما تَبلَى وأنت حبيبُ
وجاء في الحديث المرفوع : «ما رأيتُ مَنظَراً إلاّ والقبرُ أفظع منه» . وفي الحديث أيضا : «القبر أوّل منزلٍ من منازلِ الآخرة ، فمن نجا منه فما بعدَه أيسَر ، ومن لم يَنْج منه فما بعدَه شرٌّ منه» .

127

الأصْلُ:

۰.وقال عليه السلام ، وقد سمع رجلاً يذم الدنيا:أَيُّهَا الذَّامُّ للدُّنْيَا ، الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا ، المُنخَدِعُ بِأَبَاطِيلِهَا ! أَتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا ؟ أَنْتَ

1.المحال : جمع محل أي الأماكن . الموحشة : الموجبة للوحشة ، ضد الأنس . المقفرة ، من أقفر المكان إذا لم يكن فيه ساكن ولا نابت . الفَرَط : المتقدّم . التّبَع : التابع .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 123365
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي