475
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

« ويَبتغِي الزيادَة فيما بَقِي» ، هذا راجعٌ إلى النّحو الأوّل . «يَنهَى ولا يَنتهِي ، ويأمرُ الناسَ بما لا يأتي» ، هذا كما تقدَّم . «يُحِبّ الصالحين ولا يَعمَل عَملَهم» ، إلى قوله : «وهو أحدُهم» ، وهو المعنَى الأوّل بعينه . قال : يَكرَه الموتَ لكثْرةِ ذُنوبه ، ويقيمُ على الذّنوب ، وهذا من العجائب أن يَكرَه إنسانٌ شيئا ثم يُقيمُ عليه ، ولكنّه الغرورُ وتسويفُ النّفس بالأمانيّ . ثم قال : « إن سَقِمَ ظَلّ نادما ، وإن صَحَّ أمِن لاهياً» ، «فَإذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين»۱ ... الآيات .
قال : «يَعجَب بنفسِه إذا عُوفِي ، ويَقنَط إذا ابتُلي» ، «فَأَمَّا الإنْسَانُ إذا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ * وَأَمَّا إذَا ما ابْتَلاَهُ فَقَدَر عَلَيهِ رِزْقَهُ فَيَقُول رَبِّي أهَانَنِ»۲ ، ومِثل الكلمة الأُخرى : «إن أصابَه بَلاء» ، «وإنْ ناله رَخاء» . ثم قال : «تغلبه نفسُه على ما يَظُنُّ ، ولا يغلبها على ما يَستيقِن» ، هذه كلمة جليلةٌ عظيمة ، يقول : هو يستيقِن الحِسابَ والثوابَ والعِقابَ ، ولا يغلِب نفسَه على مجانبةِ ومتاركةِ ما يُفضِي به إلى ذلك الخَطَر العظيم ، وتغلبُه نفسه على السّعي إلى ما يَظنّ أن فيه لَذّةً عاجلةً ، فواعجبا ممّن يترجّح عندَه جانبُ الظنّ على جانب العلم ! وما ذاك إلاّ لضعفِ يقينِ الناس وحبّ العاجل .
ثمّ قال : «يخاف على غيره بأدنى من ذَنْبه ، ويرجو لنفسِه أكثرَ من عَمَله» ، ما يزال يَرَى الواحد منّا كذلك يقول : إنّي لخائف على فلان من الذّنب الفلانيّ وهو مقيمٌ على أفحشَ من ذلك الذنب ، ويرجو لنفسِه النّجاة بما لا تقوم أعمالُه الصّالحة بالمصير إلى النّجاة به ، نحو أن يكون يصلِّي رَكعاتٍ في اللّيل أو يصومَ أياما يسيرةً في الشّهر ، ونحو ذلك .
قال : «إن استَغنَى بَطِر وفُتِن ، وإن افتَقَر قَنِط ووهن» ، قنط بالفَتْح ويَقنِط بالكسر ، قُنوطا مثل جَلَس يَجلِس جلوسا ، ويجوز قَنَط يَقنُط بالضمّ مثل قَعَد يَقعُد ، وفيه لغة ثالثة : قَنِط بالكسر يَقنَط قَنَطا ، مثل تَعِب يَتعَب تَعبا وقَناطةً فهو قَنِط ، وبه قرئ : «فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْقَنِطِينَ»۳ ، والقُنوط : اليأس . ووهَن الرجلُ يَهِن ، أي ضَعُف وهذا المعنى قد تكرّر .
قال : «يقصِّر إذا عَمِل ، ويُبالِغ إذا سُئِل» ، هذا مِثْلُ ما مَدَحَ به النبيُّ صلى الله عليه و آله وسلم الأنصارَ : « إنّكم لتَكثُرون عند الفَزَع ، وتَقِلّون عند الطمع» . قال : «إن عَرَضَتْ له شهوةٌ أسلَفَ المعصية ،

1.سورة العنكبوت ۶۵ .

2.سورة الفجر ۱۵ ، ۱۶ .

3.سورة الحجر ۵۵ ، وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب ، وانظر تفسير القرطبي ۱۰ : ۳۶ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
474

الْمَوْتَ ، وَلاَ يُبَادِرُ الْفَوْتَ ؛ يَسْتَعْظِمُ مِنْ مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ مَا يَسْتَقِلُّ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَسْتَكْثِرُ مِنْ طَاعَتِهِ مَا يَحْقِّرُهُ مِنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ ، فَهُوَ عَلَى النَّاس طَاعِنٌ ، وَلِنَفْسِهِ مُدَاهِنٌ .
اللَّغْوُ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ مَعَ الْفُقَرَاءِ ، يَحْكُمُ عَلَى غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ ، وَلاَ يَحْكُمُ عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ ؛ يُرْشِدُ نَفْسَهُ وَيُغْوِي غَيْرَهُ ، فَهُوَ يُطَاعُ وَيَعْصِي ، وَيَسْتَوْفِي وَلا يُوفِي ، وَيَخْشَى الْخَلْقَ فِي غَيْرِ رَبِّهِ ، وَلاَ يَخْشَى رَبَّهُ فِي خَلْقِهِ .
قال الرضي رحمه الله :
وَلَو لَمْ يَكْن في هذا الكتابِ إلاّ هذا الكلامُ لَكَفى به موعظةً ناجعةً ، وحكمةً بالغةً ، وبصيرةً لمبصرٍ ، وعبرةً لناظرٍ مفكِّرٍ .

الشّرْحُ:

كثير من الناس يَرْجون الآخرَة بغيرِ عَمَل ، ويقولون : رحمة اللّه واسِعة ؛ ومنهم من يَظُن أنّ التلفّظ بكلمتَي الشهادة كافٍ في دُخول الجنّة ، ومنهم من يسوِّف نفسَة بالتوبة ، ويرجِئُ الأوْقات من اليوم إلى غَد ، وقد يُخْتَرَم على غِرّة فيفوتُه ما كان أمّله ، وأكثرُ هذا الفصل للنّهي عن أن يقول [ يكون ]الإنسان واعظا لغيره ما لم يعلمْ هو من نفسِه ، كقوله تعالى : «أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرّ وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ »۱ .
فأوّل كلمةٍ قالَها عليه السلام في هذا المعنى من هذا الفصل قولُه : «يقول في الدّنيا بقول الزّاهدين ، ويَعمَل فيها بعمل الراغبين» . ثم وَصَف صاحبَ هذا المذهب وهذه الطريقة فقال : إنّه إنْ أُعطِيَ من الدّنيا لم يَشبَع ؛ لأنّ الطبيعة البشريّة مجبولةٌ على حُبّ الازدياد ، وإنما يَقهَرها أهلُ التوفيق وأربابُ العَزْم القويّ . «وإن مُنِع منها لم يَقنَع» بما كان وَصَل إليه قبل المَنْع .
ثم قال : يَعجَز عن شكرِ ما كان أنعَمَ به عليه ، ليس يعني العجزَ الحقيقيَّ ، بل المراد تَرْك الشّكر ، فسمَّى ترك الشكر عَجزا . ويجوز أن يُحمَل على حقيقته ، أي أنّ الشكر على ما أُولِي من النّعم لا تَنتهي قُدْرَته إليه ، أي نِعَم اللّه عليه أجلّ وأعظَم من أن يُقام بواجب شكرها .

1.سورة البقرة ۴۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 123433
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي