57
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

هذا قسم آخر من الاختلاف غير الأوّل . قوله عليه السلام : «وزاكى العمل قبيح المنظر » يريد بزكاء
أعماله حسنَها وطهارتَها ، فيكون قد أوقع الحَسن بإزاء القبيح ، وهذا القسم موجود فاش بين الناس . «وقريب القعر بعيد السَّبْر» ، أي قد يكون الإنسان قصير القامة ، وهو مع ذلك داهية باقعة ، والمراد بقربِ قعره تقارب ما بين طرفيْه ، فليست بطنه بمديدة ولا مستطيلة ، وإذا سبرته واختبرت ما عنده وجدتَه لبيبا فَطِناً ، لا يوقَف على أسراره ، ولا يدرك باطنه . «ومعروف الضريبة ، منكر الجليبة» ، الجليبة هي الخلقُ الَّذِي يتكلّفه الإنسان ويستجلبه ، مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلّف الشجاعة ، أو شحيحاً بالطبع فيتكلف الجود ، وهذا القسم أيضا عام في النّاس .
ثم لما فرغ من الأخلاق المتضادة ذكر بعدها ذوِي الأخلاق والطباع المتناسبة المتلائمة ، فقال : «وتائه القلب متفرق اللّب» ، وهذان الوصفان متناسبان لا متضادّان . ثم قال : « وطليق اللّسان حديد الجَنان» ، وهذان الوصفان أيضاً متناسبان ، وهما متضادان للوصفين قبلهما ، فالأوّلان ذمٌّ ، والآخران مدح .

230

الأصْلُ:

۰.ومن كلام له عليه السلام قاله وهو يلي غسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وتجهيزهبِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّه ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالأنبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ . خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ ، وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَواءً . وَلَوْلاَ أَنَّكَ أَمْرْتَ بِالصَّبْرِ ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ ، لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ ۱ وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً ، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً ، وَقَـلاَّ لَكَ ! وَلكِنَّهُ مَا لاَيُمْلَكُ رَدُّهُ ، وَلاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ!

1.الشؤون : منابع الدمع من الرأس . المماطل : المسوف . المحالف : الملازم .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
56

تُرْبَةٍ وَسَهْلِهَا ، فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ ، وَعَلَى قَدْرِ اخْتِلاَفِهَا
يَتَفَاوَتُونَ ، فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ ، وَمَادُّ الْقَامَةِ قَصِيرُ الْهِمَّةِ ، وَزَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ ، وَقَرِيبُ الْقَعْرِ بَعِيدُ السَّبْرِ ، وَمَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ ، وَتَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ ، وَطَلِيقُ اللَّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ .

الشّرْحُ:

ذعلب وأحمد وعبد اللّه ومالك ، رجال من رجال الشِّيعة ومحدّثيهم . وهذا الفصل عندي لا يجوز أن يحمَل على ظاهره ، وما يتسارع إلى أفهام العامّة منه وذلك لأنّ قوله : «أنّهم كانوا فِلقة من سَبَخ أرض وعَذبها» ؛ إمّا أن يريد به أنّ كلّ واحد من النّاس ركّب من طين ، وجعل صورة بشرية طينيّة برأس وبطن ويدين ورجلين ، ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم ، أو يريد به أنّ الطّين الذي ركِّبت منه صورة آدم فقط كان مختلطا من سَبَخ وعَذْب . والذي أراه أنّ لكلامه عليه السلام تأويلاً باطنا ، وهو أن يريد به اختلاف النّفوس المدبّرة للأبدان ، وكنَى عنها بقوله : «مبادئ طينهم» .
وقوله : «كانوا فِلْقة من سبخ أرض وعذبها ، وحَزْن تربة وسهلها» تفسيره أنّ البارئ جلّ جلاله لمّا خلق النّفوس ، خَلَقها مختلفة في ماهيّتها ، فمنها الزكيَّة ومنها الخبيثة ، ومنها العفيفة ومنها الفاجرة ، ومنها القويّة ومنها الضعيفة ، ومنها الجريئة المقدِمة ، ومنها الفَشْلة الذليلة ، إلى غير ذلك من أخلاق النفوس المختلفة المتضادّة .
ثم فسّر عليه السلام وعلّل تساوي قوم في الأخلاق وتفاوت آخرين فيها ، فقال : إنّ نفس زيد قد تكون مشابهةً أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو ، فإذا هما في الأخلاق متساويتان ، أو متقاربتان ، ونفس خالد قد تكون مضادّة لنفس بكْر أو قريبة من المضادّة ، فإذا هما في الأخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة . ثمّ بيّن عليه السلام اختلاف آحاد الناس ، فقال : منهم من هو تام الرّواء ، لكنه ناقص العقل . والرّواء بالهمز والمد : المنظر الجميل .
قوله عليه السلام : «ومادّ القامة قصير الهِمّة» ؛ قريب من المعنى الأول ، إلاّ أنه خالف بين الألفاظ ، فجعل الناقص بإزاء التامّ ، والقَصِير بإزاء المادّ . ويمكن أن يجعل المعنيان مختلفين ، وذلك لأنّه قد يكون الإنسان تامّ العقل ، إلاّ أنّ همته قصيرة ، وقد رأينا كثيراً من النّاس كذلك ، فإذَنْ

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 120941
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي