63
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2

فَالوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ ، وَجَحَدَ الْمُدَبِّرَ ! زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ ، وَلاَ
لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ ؛ وَلمْ يَلْجَؤُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوا ، وَلاَ تَحْقِيقٍ لِمَا أَدْعَوْا ، وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بِانٍ ، أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ !

الشّرْحُ:

مدخولة : معيبة . وفَلَق : شقَّ وخلق . والبَشَر : ظاهر الجلد .
قوله عليه السلام : «وصُبّت على رزقها» ، قيل : هو على العكس ، أي وصبّ رزقُها عليها ، والكلام صحيح ولا حاجة فيه إلى هذا ، والمراد : كيف همّت حتى انصبّت على رزقها انصبابا ؛ أي انحطت عليه . ويروى : «وضنّت على رزقها» بالضاد المعجمة والنون ، أي بخلت . وجُحْرها : بيتها . «وفي وِرْدِها لصَدَرها» ، أي تجمع في أيام التمكّن من الحركة لأيام العجز عنها ، وذلك لأنّ النمل يظهر صيفا ويخفى في شدّة الشتاء لعجزه عن ملاقاة البرد .
قوله عليه السلام : «رزْقُها وفْقها» أي بقدر كفايتها ، ويروى «مكفول برزقها مرزوقة بوفقها » . والمنّان ؛ من أسماء اللّه تعالى العائد إلى صفاته الفعلية ، أي هو كثير المنّ والإنعام على عباده . والديّان : المجازي للعباد على أفعالهم ، قال تعالى : «أإنَّا لمَدِينُونَ»۱ أي مجزيّون . والحجَر الجامس : الجامد . والشراسيف : أطراف الأضلاع المشرفة على البطن .
فأما الحكماء ، فإنهم لا يثبتون للنّمل شَراسيف ولا أضلاعا ، ويجب إن صحّ قولهم أن يحمَل كلامُ أمير المؤمنين عليه السلام عَلَى اعتقاد الجمهور ومخاطبة العرب بما تتخيّله وتتوهّمه حقّا ، وكذلك لا يثبت الحكماء للنّمل آذاناً بارزة عن سطوح رؤوسها ، ويجب إنْ صحّ ذلك أن نحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام عَلَى قوّة الإحساس بالأصوات ، فإنه لا يمكن الحكماءإنكار وجود هذه القوّة للنمل .
قوله عليه السلام : «ولو ضربت فيمذاهب فكرك لتبلغ غاياته» ، أي غايات فكرك . وضربت بمعنى سرت . والمذاهب : الطرق ، قال تعالى : «وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ »۲ ، وهذا الكلام استعارة.

1.سورة الصافات ۵۳ .

2.سورة النساء ۱۰۱ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
62

الأصْلُ:

۰.منها في صفة عجيب خلق اللّه من أصناف الحيوان:وَلَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ، وَلكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ ، وَالْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ ! أَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ، وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ !
انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا ، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا ، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ ؛ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا ، وَصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا ، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا ، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا ، تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا ، وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا ؛ مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا ، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا ؛ لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ ، وَلَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا ، فِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا ، وَمَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا ، وَمَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا ، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً ، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً !
فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا ؛ وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا ! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ . وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ الَّنمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ ؛ لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ ، وَغَامِضِ اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيٍّ .
وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ ، وَالثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ .
وَكَذلِكَ السَّماءُ وَالْهَوَاءُ ، وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ . فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ ، وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ ، وَكَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ ، وَطُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ ، وَتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ ، وَالْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج2
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 120968
الصفحه من 800
طباعه  ارسل الي