البلاغة :
قوله : « بأبي أنت و اُمّي » ربما يقال في أمثال هذه العبارات أنها مردَّدة بين الكذب و العقوق ، فإن كانت صادرة في حال حياة الوالدين فهو عقوق بالنسبة إليهما ؛ من حيث جعلاهما فداءً للآخر من دون إجازة منهما فضولاً .
و إن كان بعد وفاتهما فهو كذب محض ؛ إذ لا معنى للفداء إلا تعريض الفداء للقتل ، و لا وجه له مع الموت ؛ لكونه تحصيل الحاصل . مع أنه ربما كان الفداء في أمثالهما أفضل من المفدَّى له ، مثلاً في قول العلياء زينب الكبرى ـ سلام اللّه عليها ـ في مرثية أخيها الحسين عليه السلام : بأبي من هو لا جريح فيداوى ... الخ ۱ .
و الذي يمكن أن يُجاب بحيث يندفع الإشكال بحذافيره ، أن يقال : كون هذه العبارات و أمثالها كناية عن إنشاء المدح للمفدَّى له ، و الغرض إظهار الإخلاص و المحبة من القائل ، فالغرض من الكناية ـ التي هي ذِكر اللازم و إرادة الملزوم أو العكس على الخلاف ـ هو إظهار مراتب المحبة و الخلوص .
و قد ذكروا الفرق بين المجاز و الكناية : أن المَجاز إرادة اللازم مع القرينة الصارفة عن المعنى الأصلي الذي هو الملزوم ، و الكناية إرادة اللازم مع جواز إرادة الملزوم لا وجوبه و تعينه ، ففي قولك « زيدٌ كثيرُ الرماد » الغرض إرادة معنى السخاوة الملزومة أو المستلزمة لكثرة الرماد و إن لم يكن له رماد ، كما أن « طويلُ النجاد » كناية عن الشجاعة و إن لم يكن له نجاد ، و هكذا .
فاندفع بهذا إشكالات عديدة ربما صارت مطارح الأنظار في الفقه و غيره ، مثلاً لو قال رجل لآخر : « يا ابن الفاعلة » أو « ملعون الوالدين » فهل هو قذف للأبوين أو شتم لهما أو هو شتم و إنشاء ذم للمخاطب و المقول فيه فقط ؟
و حيث إنّ في الكناية جواز إرادة المعنى الأصلي مع المعنى الكنائي لا وجوبه ، فالقدر المتيقَّن هو الشتم للمقول فيه ؛ فإن خبث الأبوين لكونه غالبا يظهر في الأولاد ـ لكون الإناء يترشَّح بما فيه ، و إن الولد سرّ أبيه ، و لا تلد الحية إلا الحية ـ فبين خبث الأبوين و خبث الأولاد ملازمة غالبا ، فاُريد اللازم . فلا يلزم الحدّ للقذف ؛ لعدم الصراحة و اليقين ، و «الحدود تدرأ بالشبهات» .
فإذا كان الأمر كذلك في طرف الذم فكذلك المدح ؛ حيث إنّ الرجل في مقام المحبة لشخص آخر بصدد البذل له بجميع ما يتعلق به من أمواله و أعز الأنفس عليه من الوالدين و الأولاد ، و بالأخرة نفسه التي هي أقرب إليه من جميع من سواه ، و كل هذا كاشف عن نوع
صميمية للقائل في حق المقول فيه ، و ليس هذا إلا لاستعداد المقول فيه في نظر القائل لهذه المراتب ، فهذا هو إنشاء المدح ، فالمقصود هو المعنى الكنائي ، فلا يكون عقوقا و لا كذبا و لا تفدية الأفضل للمفضول ؛ كما هو واضح للمتأمل .
قوله : « يا ابن السادة المقرَّبين » الخ . هذه العبارات المشتملة على الحقيقة و المجاز من حيث استعمال البعض في المعاني الموضوع لها ـ كأكثر الفقرات ـ و بعضها في المعنى المجازي كقوله يا ابن الطور و العاديات ؛ فإنّ «وَ طُورِ سِينِينَ»۲ في سورة التين قد فُسِّر بالكوفة ۳ ، و بعلاقة الحالّ و المحل قد عُبِّر بالكوفة عن أمير المؤمنين عليه السلام ، كما قد عُبِّر بمكة و منى في قول السجاد عليه السلام : أنا ابن مكة و منى ، ۴ عن النبي صلى الله عليه و آله .
و لا يخفى أن الذي يلزم في التجوّز هو شدة العُلقة و الارتباط و كمال الاتحاد بين المعنى الحقيقي و المجازي ، بحيث يصح دعوى الاتحاد تنزيلاً ، كما قال الشاعر :
رقَّ الزُّجاجُ و رقَّتِ الخمرُفتشابها و تشاكَلَ الأمرُ
فكأنَّما خمرٌ و لا قَدَحٌو كأنما قَدَحٌ و لا خمرُ۵
فالعلائق المذكورة من المشابهة و الحلول و السببية و الجزئية و العموم و الخصوص و غير ذلك لا توجب صحة التجوّز ما لم تبلغ في الظهور و شدة الارتباط بهذه المثابة ، فليس كل مشابهة أو كل حلول و السببية مثلاً مصحِّحا للتجوز . أ لا ترى صحة التجوز في الأسد بالنسبة إلى الرجل الشجاع بمشابهة في الشجاعة لا في الجدار بالنسبة إلى الرجل الطويل لشبهه في الطول ؛ و الرقبة في العبد للجزء و الكل ، دون الأصبع مثلاً ؛ فإنّ أظهر أوصاف الأسد لمّا كان هو الشجاعة ، فقد اضمحلّت سائر الصفات في جنبها ، فليست الأسدية إلا بالشجاعة ، فمِن هنا صار الرجل الشجاع كأنه هو الأسد ، و كذا العبد لمّا كان أظهر أوصافه الرقية و الانقياد للمولى بواسطة حبل المالكية الذي هو في عنقه ـ كما صار الحيوان بواسطة الزمام أو اللجام تحت سلطنة مالكه ـ فالرقبة مظهر رقيته ، فكان تمام الملاك في العبودية .
و كذلك العين في الرؤية ؛ لأنّ الأعمى لا يتمكن من المراقبة و المحافظة ؛ لعدم رؤيته من يرعى حمى الغير ، فالأصل فيه هو العين .
و هذا معنى ما قيدوا به علاقة الجزء و الكل باشتراط استعمال الجزء في الكل بكونه مما يُنتفى بانتفائه الكل ، فالمدار و المعيار في صحة التجوز تحقق الاتحاد و لو تنزيلاً و ادعاءً بين المعنى الحقيقي و المجازي بأي معنى كان . و حيث إن ظهور شرافة مكة و منى و بروز احتراماتهما لأجل بيانات النبي صلى الله عليه و آله و انتسابه إليهما ـ فكأن قوام مكة من حيث هي مكة لوجوده « ص » ـ فصح إطلاق مكة عليه في قوله : يا ابن مكة و منى .
و يمكن أن يكون النظر إلى مجرد الانتساب ، كما يقال : « فلان من أبناء البصرة أو الكوفة » أي من أهاليهما ؛ من جهة علاقة الحالّ و المحل ، كما في قوله تعالى : «وَ سْئلِ الْقَرْيَةَ»۶ أي أهلها .
بقي الكلام في الغرض بأنّ النداء في هذه العبارات العديدة حقيقة كانت أو مجازا ؛ فإن المنادى هو المطلوب إقباله بالنداء؛ على ما قاله أهل العربية . و لكن الأغراض من النداء مختلفة ؛ فقد يكون المقصود منه التكلم ، و قد يكون منه الاستغاثة ، و قد يكون منه الحضور ليتعجب منه الناس ، و قد يكون المنظور منه التفجع و التوجع كما في الندبة . و الظاهر أنّ هذه ليس كل منها معنى آخر لحروف النداء ، بل من قبيل اختلاف الأغراض من النداء بحسب اختلاف الموارد ، و له نظائر في الموارد الاُخر ؛ فإن الاستفهام طلب الفهم ، فقد يكون الغرض منه الإنكار أو التوبيخ أو التقرير أو الإبهام أو الشك أو غير ذلك مما ذكروه في كتب العربية .
و كيف كان فالظاهر كون الغرض من النداء في هذه العبارات هو البعث و التهييج و تحريص حجة العصر ـ عجل اللّه تعالى فرجه ـ كي يدعو ربه فيستجاب له ، كما اُشير إليه في الفصل السابق ؛ مأخوذا من الآية الشريفة : «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ»۷ الخ .
أ لا ترى أنه إذا كان رجل مظلوما ، و يراه رجل آخر مقتدر على رفع الظلم منه و هو من الشجعان و من نسل الشجعان و سليل الكرام ، فيناديه بأمثال العبارات التي يهيِّج له الحمية ،
فيقول : «أيها الشجاع و ابن الشجعان الكرام ، أغثني» ، فيعلِّق الحكم على الوصف مشعرا بالعلية ، يعني : إنّ استغاثتي و التجائي بك لأجل الشجاعة الموروثة و الكرم المألوف من سلسلتك ؟
هذا ، و أمّا حمل هذه العبارات و أقسام النداء على الندبة ـ و إن كان مناسبا لكون الدعاء مسمى بدعاء الندبة كما أشرنا إليه في المقدمة ـ و لكن يبعّده وجهان :
أحدهما : أن المندوب يُزاد الألف غالبا في آخره مع الهاء أو بدونها لاستطالة الصوت ، و هذه العبارات كلها خالية عنه .
الثاني : أن هذه الأوصاف لا تلائم الندبة ، بل هي ـ كما عرفت ـ مهيِّجة للحميّة و مثيرة للغيرة و الحماسة .
1.انظر : اللهوف ، ص ۷۹ ( مطبعة مهر ) ؛ بحار الأنوار ، ج ۴۵ ، ص ۵۹ ؛ العوالم ، ج ۱۷ ، ص ۳۰۳ .
2.سورة التين ، الآية ۲ .
3.معاني الأخبار ، ص ۳۶۵ ؛ بحار الأنوار ، ج ۹۶ ، ص ۷۷.
4.المناقب لابن شهرآشوب ، ج ۳ ، ص ۳۰۵ ، و قد نطق به الإمام الحسن السبط عليه السلام أيضا حين قال له معاوية بعد الصلح : اذكر فضلنا كما في الأمالي للصدوق ، ص ۲۴۵ و تحف العقول ، ص ۲۳۲ و غيرهما .
5.البداية و النهاية ، ج ۱۱ ، ص ۳۶۱ ؛ بحار الأنوار ، ج ۵۵ ، ص ۴۸ .
6.سورة يوسف ، الآية ۸۲ .
7.سورة النمل ، الآية ۶۲ .