البلاغة و المعنى :
اِعلم أن هذه العبارات المشتملة على التفدية قد عرفت في الفصل السابق عدم إرادة المعاني الأصلية منها ، بل المقصود منها الكنايات و إرادة محبوبية المفدَّى له ؛ من حيث استجماعه الصفات الحميدة و الكمالات النفسانية المشار إليها بعبارات اُخرى لاحقة . و قد أشرنا في بيان الإعراب إلى كونها رافعة الإبهام عن النسبة ، و أن المحبوبية من حيث هذه الصفات .
ولا يخفى أن العترة الأطهار ـ سلام اللّه عليهم ـ لهم امتياز مخصوص ؛ من حيث الاحتواء على الصفات الحميدة و الأخلاق الجميلة ، كما نطقت به الأخبار الكثيرة ، و منها ما في بعض خطب أمير المؤمنين عليه السلام بعد الانصراف من صفين ، إلى أن قال : لا يُقاس بآل محمد من هذه الاُمّة أحد ، و لا يستوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين و عماد اليقين ؛ إليهم يفيء الغالي ، و بهم يلحق التالي ، و لهم خصائص حق الولاية ، و فيهم الوصية والوراثة . الآن إذ رجع الحق إلى أهله ، و نُقل إلى منتقله ... الخطبة ۱ .
فيُستفاد منها أنه : لا يُقاس بآل محمد أحد من غيرهم في واحد من الأوصاف ، بل هم المستجمعون لجميع الكمالات دون الخالق و فوق كل مخلوق ، و إليه الإشارة في بعض فقرات الزيارة الجامعة : ذكركم في الذاكرين ، و اسماؤكم في الأسماء ، و أجسادكم في الأجساد ، و نفوسكم في النفوس ، فما أحلى أسماءكم و أكرم أنفسكم ... الخ ، كما سبق إليه الإشارة في المقدمة .
فالمعنى حينئذ أن إمام العصر ـ عجل اللّه فرجه ـ على ما هو المنظور المخاطب و المنادى في دعاء الندبة ؛ حيث كان كسائر أهل بيت العترة عليهم السلامواجدا للكمالات ، و مع هذه
الكمالات هو غائب عن الأنظار مستور مختف في الأقطار متوار عن الناس خوفا من الأشرار ، فيتأسف له الداعي بتفديته نفسه و يقول : «ليت نفسي تكون بدلاً عنه و فداءً له!» في مقام الفقدان و الغيبة الذي هو منزَّل منزلة الموت و الهلكة .
و كما أنّ رجلاً كان في معرض القتل فيفدَّى عنه بنفس آخر ناطقة أو ناهقة أو بمال لكونه أهم و أشرف ، فكذا القائل يجعل نفسه الفداء للإمام الغائب في مقام غيبته المنزَّلة منزلة الموت ؛ و ذلك لأجل شرافته و كونه رؤوفا عطوفا علينا كجده المصطفى رحمة للعالمين .
و كونه « معاهد عزّ لا يُسامى » أي لا عزّ فوق عزه ؛ فإنّ أسباب العزّ من العلم و الشجاعة و السخاوة و أمثالها موجودة على نحو الأكملية فيه عليه السلام ، كما عرفت .
و كونه « تلاد نعم لا تُضاهى » أي من النعم القديمة التي لا تُضاهى بسائر النعم ، و قد اتضح معناه مما ذكر . أما كونه نعمة فواضح ، و قد فُسّرت النعمة في أكثر الآيات بحجة العصر ، و أية نعمة فوق الإمام ، فالنعمة هي المنفعة الواصلة من الغير ، و أية منفعة أعظم من الإمام ، بل المنافع تفيض علينا بواسطتهم .
و مرجع هذا كله إلى بيان ممدوحية الصفات المذكورة و استحسانها تقديرا و تقديسا ، كي يكون ذلك التقديس تشويقا للغير و ترغيبا لهم إلى الاتصاف بهذه الصفات . فإذا رأينا أن واحدا من الأجلة و المعتبرين يجعل نفسه فداءً لرجل آخر أكمل منه لأجل شجاعته و علمه و سخاوته و غير ذلك من صفاته الراجعة فائدتها غالبا إلى الأشخاص و آحاد الملة ، فيتشوَّق كلُ سامع إلى تكميل العلم و الشجاعة و غيرها من تلك الأوصاف ؛ كسبا للشرف و اتخاذا للاحترام عند الأنام ، بل هذا هو الغرض من تدوين التاريخ و السير و ضبط أحوال السلف ؛ لتكون تذكرة للخلف عند رجوعهم إليها و تنبههم من مجاري حالاتهم و وقائع سلفهم ، من سوء المجازات للأشرار و حسن المكافأة للأخيار ؛ «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَ يَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ»۲ .
و لعمري إن المقصود من ذكر قصص الاُمم السالفة في القرآن المجيد ليس إلا هذا ؛ أ لا ترى إلى ما يقول تعالى في الآية : «أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ
[ مِن قَبْلِهِمْ ]»۳ الآية ؛ حيث إنّ الظاهر هو السير النظري إلى تاريخ أحوالهم ، و بهذه الملاحظة صارت نبوة نبينا خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله آخر النبوات و شريعته آخر الشرائع ، مضافا إلى كون دينه أكمل الأديان ، لا يُنسخ بدين آخر كما كان يُنسخ الأديان السابقة و الشرائع الماضية ؛ لتنظر اُمّته إلى سائر الاُمم و ابتلائهم به سبب معاصيهم ، فينزجروا من المناهي و يرتدعوا من المعاصي . و هذا لطف من الألطاف الإلهية المخصوصة باُمّة محمد المرحومة ، و من هنا تبين كونهم من جلائل نعم اللّه تعالى التي لا تضاهى و لا تشبه و لا يقاس بهم أحد ممن سواهم .
قوله : « إلى متى أجأر فيك يا مولاي ، و إلى متى » الخ .
الاستفهام حقيقته طلب الفهم ، ففي هذا المقام حقيقة « متى » سؤال عن الزمان و غاية الضيق و منتهى الخفاء والشدة . و لكن قد تُستعمل الألفاظ الموضوعة للاستفهام في المعاني الاُخر مجازا على ما هو المشهور ؛ كما قال في التلخيص و شرحه في باب الإنشاء ، حتى أن التفتازاني قال في الشرح : و تحقيق كيفية هذا المجاز و بيان أنه من أيّ نوع من أنواعه مما لم يحم أحد حوله .
و قال الشريف في حواشيه : و نحن نذكر في هذه المواضع ما يتضح به وجه المجاز فيها ، فمن جملة المعاني : الإنكار و التعجب و التهديد و التوبيخ و السخرية .
بل قد ذكر في التلخيص أولها الاستبطاء، كما في الآية الشريفة : «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ»۴ . قال الشريف : فإنّ الاستفهام عن زمان النصر يستلزم الجهل بزمانه ، و الجهل به يستلزم استبعاده عادةً أو ادعاءً ؛ لأن الأنسب بما هو قريب أن يكون معلوما بنفسه أو بأماراته ، و استبعاده يستلزم استبطاءه .
فإذا عرفت ذلك فقد تبين لك السرّ في الاستفهام في المقام و أنه الاستبطاء ، من حيث طول المدة و كثرة زمان الغيبة و الشدة الموجبة للنداء بالصوت الجلي ، كما هو مفاد الجؤر ، و قد أشار الداعي بقوله : « عزيز عليّ أن اُجاب دونك و اُناغى » إلى شدة المصيبة ؛ من حيث إنّ المناغاة ـ على ما سبق ـ هو بعض التكلمات مع الطفل بما لا يفهمه تمويها له أو إسكاتا من
البكاء ، فهذا الرجل المنادي لإمامه بأعلى صوته و صياحه يجيبه غيره في مكانه بنحو من التلبيس و التدليس إغفالاً و إسكاتا كما يصنع مع الأطفال .
و لا مصيبة فوق هذه المصائب : أن يجلس الغاصب فوق مسند الرئيس و يجيب الغاصب . و كل هذه كناية عن مظلومية إمام العصر ـ عجل اللّه تعالى فرجه ـ بحيث صار سببا لتراكم المصائب على الشيعة و بقائهم تحت الذل و الإسارة و أنواع المحنة .
قوله : « هل يتصل يومنا منك بغده فنخطى » . الاستفهام هنا أيضا ليس على حقيقته ، بل للإستبعاد ؛ كما قاله في التلخيص ، و مثّل له بالآية الشريفة : «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَ قَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ»۵ . و حيث إنّ « أنَّى » سؤال عن المحل مكانا أو زمانا ، و كان ينبغي لهم التذكر مع إتيان الرسول الذي هو ذكر لقومه ـ على ما في الآية ـ و مذكّر ، فمع وجود المذكِّر لم يتحقق منهم التذكر ، فمع عدمه لا يكون بطريق أولى . فالسؤال عن المحل إنكار و استبعاد له ؛ إذ لابدّ لكل شيء من محل ، فنفي المحل نفي للحالّ ، و إنكار هذا إنكار ذاك .
ثم إنه لا يخفى عليك أن الاستفهام حقيقة واحدة ، و الأغراض مختلفة ، فقد يكون الغرض منه التعجب كما في قوله تعالى : «مَا لِىَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ»۶ الآية ، و قد يكون التهكم كما في قوله تعالى : «أَ صَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَآ»۷ الآية ، و قد يكون الاستبطاء و الاستبعاد كما ذكرنا .
فهذه ليست المعاني المجازية ، بل الأغراض المستفادة المستنبطة بحسب مناسبات المحل و مقتضيات المورد . و تفصيل الكلام في تحريراتنا الاُصولية التقاطا من شيخنا و اُستادنا آية اللّه الطهراني قدس سره .
بقي الكلام في تفسير معنى اليوم و الغد و معنى الاتصال في هذا الكلام . و الظاهر أن يوم الداعي إشارة إلى حاله في حال الدعاء ، و هو حال المظلومية و الشدة به سبب غيبة الرئيس و خفائه .
و معلوم أن غد كل يوم بدله ، و تبدل الغيبة إلى الظهور ، عجل اللّه تعالى فرجه بظهوره . كما أن غد الدنيا هو الآخرة لتبدله إلى النشأة الاُخرى ، و هي نشأة المجازات عقيب نشأة
التكليف و نشأة العمل . و اتصال يوم الغيبة بغده ـ و هو يوم الظهور ـ بانقضاء الغيبة ؛ إذ لا يتصل زمان بزمان إلا بانقضائه .
قوله : « متى ترانا و نراك » يعنى متى تظهر بحيث تُرى علانيةً كسائر الأشخاص بمنظر من الخلق و مسمع ، و لكن بهيئة الرئاسة العامة قد نشرت لواء النصر .
قوله : « تُرى » مفعول ثان أو حال عن الكاف في « نراك » ، أي : نراك مرئيا دائما على حالة الظفر و الغلبة .
1.نهج البلاغة ، ج ۱ ، ص ۳۰ ، الخطبة ۲ .
2.سورة الأنفال ، الآية ۴۲ .
3.سورة محمد ، الآية ۱۰ ، و في النسخة : «كفروا» ، بدل «آمنوا» ، و هو خطأ .
4.سورة البقرة ، الآية ۲۱۴ .
5.سورة الدخان ، الآية ۱۳ .
6.سورة النمل : الآية ۲۰ .
7.سورة هود : الآية ۸۷ .