131
ميراث محدث اُرموي

ميراث محدث اُرموي
130

البلاغة :

اعلم أن الالتفات باب في علم المعاني واسع ، و لابدّ له من نكتة ، كما قالوا في قوله تعالى : «إيَّاكَ نَعْبُدُ»۱ بعد قوله : «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَــلَمِينَ»۲ إلى ما بعده من صيغ الغيبة ، فالعدول إلى الخطاب من الغيبة بملاحظة أن التحميد و التقديس ابتداءً كأنه صار مقرِّبا إلى حضرته تعالى . أو أن بذكر الأوصاف عرف الموصوف ، كأنه صار ممثَّلاً بين يديه فخاطبه خطاب العيان .
ففي المقام حيث إنّ إمام العصر ـ عجل اللّه تعالى فرجه ـ و إن كان حاضرا يرانا في كل آن و مكان ، و لكن لا نراه على الرسم ، فهو غائب مستور عن أبصارنا ، و ليس معلوما لنا مكانه و محله ، فالتعبيرات الأولية بقوله : « أين بقية اللّه التي لا تخلو » الخ ، ناظرة إلى مقام الغيبة و الاحتجاب عن الأنظار، وبعد ذكر أكثر الأوصاف المختصة بوجوده الأقدس كأنه صار ممثَّلاً و مغيَّبا يصلح للخطاب ، مع كون ذلك التمجيد سبب نوع قرب و زلفى للمتكلم ، فصح التعبير بالخطاب و العدول من الغيبة إليه في قوله : « و نفسي لك الوقاء يا بن السادة المقرَّبين » .
و حيث إنّ هذه الصفات العالية و الخصال الحميدة السامية أجلّ و أعلى من أن يواجه المتكلم صاحب تلك الصفات [ لا ]سيما بعنوان التنزيل و الادّعاء ، فتواضع و تنزّل عما هو
فيه و رجع إلى الأصل ، و هو كون الإمام غائبا ، فأظهر الأسف على الغيبة بقوله : « ليت شعري أين استقرت بك النوى » إلى أن قال : « بنفسي أنت من مغيَّب لم يخل منا » .
و لا يبعد أن يقال : قد جمع الخطاب و الغيبة في أكثر هذه العبارات نظرا إلى الجهتين أو إلى الإمام و المأموم ؛ فإن الإمام شأنه أجل من الغيبة ، بل حاضر في كل مقام ، و لكن المأموم بعيد عن مقام القرب و غائب عنه .
و كيف كان فلما كثر الأنين و التأسف و إظهار التظلم إلى حضرة إمام العصر ـ عجل اللّه تعالى فرجه ـ فلم يظهر منه ما يوجب الفرح و السرور و ما يفيد الاطمئنان بوعد الظهور ، مع أنه أيضا عبد مأمور ، «لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ»۳ ، فالتفت من خطاب الإمام عليه السلام إلى خطاب الباري و الاستغاثة إليه و الالتجاء به ، فقال : « اللهم أنت كشّاف الكرب و البلوى » .
و التصغير في « عبيدك » و توصيفه بالمبتلى للتهييج و الترغيب إلى قضاء حاجته ؛ فإن السيد بمقتضى سيادته يكون غالبا بصدد الحماية من عبيده و المنتسبين إليه ، [ لا ] سيما إذا كان صغيرا و مبتلى ؛ لكونهما مرحومين بنظر العموم ، و كيف إذا كان سيده .
و كما أن تصغير العبد و التوصيف بالابتلاء له دخل في سرعة الإجابة و نيل المقصود ، فكذلك التعبيرات بقوله : « يا شديد القوى » و « يا من على العرش استوى » كلها من باب «التعليق على الوصف مشعرة بالعلية» و ناطقة ببيان جهة الاختصاص و توجه الخطاب و الاستغاثة إليه تعالى .
قوله : « ما طلعت شمس و ما أضاء قمر » كناية عن التأبيد و الخلود ، كما أن قوله تعالى في الآية : «خَــلِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَـوَ تُ وَ الْأَرْضُ»۴ أيضا كذلك . و كذلك قولك : « أُصَلِّي عليك صبحا و مساءً و ليلاً و نهارا » .
هذا في الاستيعاب الزماني ، و في الاستيعاب المكاني يعبِّرون بالمشرق و المغرب ؛ و ذلك لعدم خلو المكان عن أحدهما ، كما أن الزمان لا يخلو عن الليل و النهار بل عن الصبح و المساء ؛ فإن الصبح ممتد إلى الظهر كما أن المساء ممتد إلى الليل .
قوله : « وأدِلَّ به أولياءك ، و أذِلَّ به أعداءك » الاُولى بالدال المهملة ، و الثانية بالمعجمة [ و ] في بعض النسخ بالفك ، و على الإدغام في كليهما كما في بعض النسخ الاُخرى ، فهو من قبيل التجنيس الخطي ، و هو التوافق بين اللفظين في الكتابة مع قطع النظر عن الحركات بل النقاط أيضا ، كما في الآية الشريفة : «وَ الَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَ يَسْقِينِ * وَ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ»۵ .
و كذا فيما كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية بن أبي سفيان : غَرَّك عِزُّك ، فصار قُصارى ذلك ذِلّك ، فاخْشَ فاحِشَ فِعْلِك ، فَعَلَّك بهذي تهتدي . فكتب في الجواب : « على قدري ، على قدري » ۶ .

1.سورة الفاتحة ، الآية ۵ .

2.سورة الفاتحة ، الآية ۲ .

3.سورة الأنبياء ، الآية ۲۷ .

4.سورة هود ، الآيتان ۱۰۷ و ۱۰۸ .

5.سورة الشعراء ، الآيتان ۷۹ ـ ۸۰ .

6.أنظر : مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ، ج ۱ ، ص ۳۲۶ ؛ بحار الأنوار ، ج ۴۰ ، ص ۱۶۳ ، و ج ۷۵ ، ص ۸۳ ، ح ۸۶ باختلاف .

  • نام منبع :
    ميراث محدث اُرموي
    المساعدون :
    الاشكوري، احمد
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دار الحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1385
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 73721
الصفحه من 384
طباعه  ارسل الي