المعنى :
قوله : « لا يُسبق بقرابة في رحم و لا بسابقة في دين » .
أما القرابة في الرحم فهو ابن عم الرسول صلى الله عليه و آله ، مع قطع النظر عن كونه مؤاخيا له و صهرا و أبا سبطيه . فهذا الارتباط النسبي بينه و بين الرسول مخصوص به عليه السلام ، لا يسبقه فيه أحد .
نعم ، يمكن الخدشة في ذلك بالعباس و حمزة عمَّي الرسول ؛ فإنهما أقرب من ابن العم ؛ لكونهما في الدرجة الاُولى . و لكنه مدفوع بما ورد في الأخبار في هذا المقام في أولوية علي عليه السلام من العباس بمواريث النبوة ، بأن أعيان بني الاُمّ أولى من بني العلات ؛ فإن عبد اللّه و أبا طالب من أب و اُمٍّ واحدة ، و لكن العباس و غيره من اُمهات شتى .
و لو اُغمض عن ذلك فنقول : لا يبعد في هذه العبارة جعل قرابة الرحم و سابقة الدين بهيئة الاجتماع ، كالخاصة المركبة في قولنا : « الخفاشُ طائرٌ ولودٌ » .
فلو سلمنا كون العم أقرب من ابن العم فلا سابقة لهما في الدين ، فحمزة قَبِل الإسلامَ في السنة الثالثة من البعثة و العباس بعد الهجرة إلى المدينة بعد غزوة بدر ، و أمّا علي عليه السلام فقد آمن به صلى الله عليه و آله في اليوم الثاني [ من البعثة ] قبل كل أحد ، و لم يسبقه في الدين أحد من الرجال . فللّه درّه ، ليس بمسبوق في القرابة و سابقة الدين و لا بملحوق من حيث الفضيلة و المنقبة .
قوله : « و لا تأخذه في اللّه لَوْمةُ لائم » يعني إنه عليه السلام لمّا كان في أفعاله و أقواله و حركاته و سكناته غرضه رضوان اللّه ، فما كان يعتدّ برضاء المخلوق أو سخطه ، كان يقول ما يرضى به اللّه تعالى و إن سخط به الخلق ، لا كما صنعه الخطيب بدمشق حتى قال له السجاد عليه السلام : ويحك أيها الخاطب ! اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق۱.
و لقد كان في مراعاة رضى الخالق بحيث ما كان يلاحظ قرابته ، حتى أنه لم ينظر إلى أخيه عقيل و هو من اُسراء بدر ، مع أنه قد التجأ إليه به سبب الاُخوّة . و ما راعى حقوق الاُختية في دار اُمّ هانئ يوم فتح مكة ، إذ دخلها لإخراج المقصرين . و قال في حق بنته اُم كلثوم في قضية القلادة التي استعارتها من خازن بيت المال إلى ثلاثة أيام ، فالتفت علي عليه السلام إلى ذلك و عاتب بنته ، ثم دعا ابن أبي رافع و عاتبه ، فقال : أعرتها إياها بشرط الضمان ، فقال عليه السلام : و لولا ذلك لكانت اُمّ كلثوم أول هاشمية قطعت يدها!۲ ـ إلى غير ذلك من حالاته
المنقولة الكاشفة عن تصلبه في أمر الدين من دون ملاحظة لَوْم و لا عتاب .
قوله : « فأودع قلوبَهم أحقادا بدريةً » .
أقول : أما الأحقاد البدرية فواضحة ؛ لأنّ المحاربة مع أهل مكة و العمدة فيهم بنو أميّة ، و كذلك الأحقاد الحنينية؛ فإن المحاربة ـ و إن كانت مع الهوازن ـ إلا أن أهالي مكة و منهم بنو اُميّة قد ظهر منهم في هذه الغزوة بعض الإقدامات ، من حيث كونهم متزلزلين و مضطربين من جهة فتح مكة بما يقرب من شهر أو شهرين قبل ذلك ، حتى أن النبيّ صلى الله عليه و آله قد أعطى أكثرَهم من غنائم حنين قسمة كثيرة و منع الأنصار ، و ليس ذلك إلا لتأليف قلوبهم وحبَّبهم و لسدّ باب فتنتهم .
و هذا كله واضح ، و إنما الإشكال في الأحقاد الخيبرية ؛ فإن المحاربة [ في خيبر ] مع اليهود ، و لم يظهر من جماعة اليهود بعد النبيّ صلى الله عليه و آله بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام ما كان يصح انتسابه إلى آثار تلك المحاربة . ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأن الفتح لمّا كان في تلك الغزوة باسم أمير المؤمنين ، و قلعُه باب خيبر معروف من الأخبار و السير ، حتى قيل فيه أشعار و أبيات كما في قصيدة ابن أبي الحديد :
يا قالع البابِ الذي عن حملهعجزت أكفٌّ أربعون و أربعُ۳
مع أن رجال الصحابة قد انهزم كلُّ واحد منهم مع جنده قبله في الأيام السابقة ، و مع انهزامهم في اليوم السابق ، كان يرجو كلٌّ منهم إعطاءَ الراية غدا لهم ، لما وعد صلى الله عليه و آله بقوله : لاُعطينَّ الرايةَ غدا رجلاً يحبُّ اللّه َ و رسولَه ، و يحبُّه اللّه ُ و رسولُه۴. لكونهم آيسين من عليٍّ لابتلائه شديدا بوجع العين ، فلما كان الغد دعا النبي عليا ـ و كان أرمد ـ فحضر ، فأعطاه اللواء بعد أن استشفى لعينيه بلعابه الشريف ، و قال : اللهم احفظه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه وشماله ، و قِهِ الحرَّ و البردَ ... إلى آخره .
و من الواضح أن هذه أسباب عظيمة للحقد و العداوة لكبار الصحابة ، كما أن الانهزام و الفرار في غزوة الحنين في أول الأمر لما أصابهم العين السوء بملاحظة كثرة جيش الإسلام ، و عدم بقاء الأصحاب مع النبي صلى الله عليه و آله ، إلا القليل مما يقرب العشرة منهم أمير المؤمنين عليه السلام ، حتى أن النبي لما رأى هزيمة الأصحاب أمر العباس عمَّه ـ و كان جهوريَّ الصوت ـ بأن
يناديهم ، فصاح بأعلى صوته : يا أصحاب سورة البقرة ، و يا أهل بيعة الشجرة ، أين تفرون؟! ۵
ثم إن النبيّ ـ مع كونه لا يقرأ الشعر إلا منكسرا ، و لا يقول شعرا كما في الآية الشريفة : «وَ مَا عَلَّمْنَـهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ»۶ ـ تكلَّم بكلام موزون ، بل يمكن درجه في الشعر ، للترغيب والتحريص ؛ فإن الشعر له أثر مخصوص في القلوب تنفعل عنه الطباع جدا ، فقال صلى الله عليه و آله :
أنا ابنُ عبد المطلبأنا النبيُّ لا كذب۷
فتأثر القوم من كلماته صلى الله عليه و آله ، [ لا ] سيما بعد نداء العباس بعبائر مهيِّجة ؛ فإنّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية : أما سبب كون البيعة تحت الشجرة مهيجا لهم فواضح ؛ لكونهم قد بايعوه على أن لا يخذلوه و لا يتركوه بين الأعداء و يحفظوه و أولاده ... إلى غير ذلك من العهود و المواثيق . و أما تشويقهم بتذكار سورة البقرة ، فيمكن أن يكون لتذكير قصة البقرة التي بإصابة بعضها بالميِّت صار حيّا بإذن اللّه ، ففي هذا الجهاد الواقع بإذن اللّه و بين يدي رسول اللّه حياة أبدية و سعادة دائمة ، بل لم يكن أكثر فقرات تلك القصة من استخلاص المتهمين بالقتل بظهور القاتل ومن انتفاع الإسرائيلي بثمن البقرة و غير ذلك إلا به سبب التوسل و الصلاة على محمد و آله ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ على ما في تفسير الإمام [ العسكري ] عليه السلام .
و كيف كان فالمنهزمون في تلك الغزوة ـ و إن رجعوا بعد النداء ، فلهم مع من هو ثابت القدم كأمير المؤمنين عليه السلام منافرة و معاندة قهرية؛ لعدم السنخية . فهذه الأحقاد و الضغائن كانت مودعة و كامنة في قلوبهم قد ظهرت بعض آثارها في حق أمير المؤمنين ، فتولدت حرب الجمل و صفين و النهروان .
بل لا يبعد أن يكون شهادته عليه السلام أيضا أثرا من آثارها ، و ادّخر بعض الآثار إلى زمن أولاده ، حتى ظهر بعض من تلك الآثار في حق الحسين عليه السلام . أ ما ترى أنّ وقعة الطفِّ من
أظهر تلك الآثار ، حتى أن ابن سعد قد شجَّع فرسان أهل الشام و هيَّج أحقادَهم إذ قال لهم : ويحكم! أ تدرون من تقاتلون؟! هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، احملوا عليه من كل جانب ۸ . فإنّ غرضه لم يكن مدح أبيه بالشجاعة ، بل تذكير العداوة السابقة ليُقدموا على المحاربة [ . . . ] بنظر الانتقام ، و لذا فرّع عليه قوله : « فاحملوا » .
و بقي من تلك الآثار بعض أقسامها ، فأظهرها ابن معاوية و بيده قضيب خيزرانة ، و بين يديه رأس الحسين عليه السلام ينكت به ثناياه و يقول :
ليت أشياخي ببدر شهدواجزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّوا و استهلّوا فرحاثم قالوا يا يزيد لا تشل۹
هذه أحقاد بدر و حنين ، و أمّا أحقاد خيبر بالنسبة إلى طوائف اليهود في حق الحسين و عترته ، فقد ظهرت عند دخول دمشق لما عبروا بهم من محلات اليهود ، و ينادي مروان أخ اليهود بل الأشرّ منهم : «يا معشر اليهود ، هؤلاء من أولاد أحمد الذي قد قتل رجالكم و سبى نساءكم ، و جلاكم عن أوطانكم !» ، فأشعلوا عند ذلك النيران و القصب و رضخوا الرؤوس و الاُسارى بالأحجار .
قوله : « و جرى القضاءُ لهم بما يُرجى له حُسنُ المثوبة » : يعني إنهم لما ابتلوا بمصائب شديدة من القتل و السبي والإقصاء كما في وقعة الطف ؛ فإنهم قد أبعدوا و شرّدوا عن أوطانهم كما قال دعبل فيما قال :
مشرَّدون نُفوا عن عُقْرِ دارِهِمكأنهم قد جَنَوا ما ليس يُغتفُر۱۰
و يمكن [ أن تكون ] الإشارة به إلى الغريبين الأب : موسى بن جعفر غريب بغداد ، و ابنه أبي الحسن الرضا غريب خراسان؛ و إن انتهى آخرهما إلى القتل و المسمومية ، و لكن الأظهر في مصداق الإقصاء هو وجود حجة العصر ـ عجل اللّه فرجه ـ فقد جرى له القضاء بالغيبة الكبرى ، و لكن يُرجى له حسن المثوبة ، بأن يكون ظاهرا كي يملأ الأرض قسطا و عدلاً كما ملئت ظلما و جورا ، و هو الذي اُشير إليه بقوله : إذ كانت الأرضُ للّه يُورثها من يشاء ،
و هو المراد من الوعد كما أشار إليه بقوله : «إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً»۱۱ .
و لما انتهى الكلام إلى ذكر الغيبة الكبرى فعند ذلك قد هاجت الأشواق و سالت الأحداق لكآبة الفراق ، فقال : فعلى الأطائب ... الخ .
1.مثير الأحزان ، ص ۸۱ ؛ بحار الأنوار ، ج ۴۵ ، ص ۱۳۷ ؛ مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف ، ص ۲۲۷ .
2.انظر : مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ، ج ۱ ، ص ۳۷۵ ؛ حلية الأبرار ، ج ۲ ، ص ۲۸۷ ، ح ۶ .
3.شرح القصائد الهاشميات و العلويات ، ص ۱۴۰ ، و هو من القصيدة السادسة من القصائد العلويات السبع .
4.الدعوات للراوندي ، ص ۶۳ ؛ الكافي ج ۸ ، ص ۳۵۱ ؛ علل الشرائع ، ج ۱ ، ص ۱۶۳ .
5.الأمالي للمفيد ، ج ۱ ، ص ۱۴۲ ؛ مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ، ج ۱ ، ص ۱۶۶ ؛ بحار الأنوار ، ج ۲۰ ، ص ۱۱۸ ، تفسير القمي ، ج ۱ ، ص ۲۸۷.
6.سورة يس ، الآية ۶۹ .
7.الأمالي للطوسي ، ص ۵۷۴ .
8.مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ، ج ۳ ، ص ۲۵۸ ؛ بحار الأنوار ، ج ۴۵ ، ص ۵۰ ؛ العوالم (الإمام الحسين عليه السلام ) ، ص ۲۹۳ ؛ مقتل الحسين عليه السلام لأبي مخنف ، ص ۱۹۷ .
9.روضة الواعظين ، ص ۱۹۱ ، المسترشد ، ص ۵۱۰ ؛ مقاتل الطالبيين ، ص ۸۰ ، الاحتجاج ، ج ۲ ، ص ۳۴ .
10.عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج ۱ ، ص ۲۹۸ ضمن ح ۳۶ ؛ مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ، ج ۲ ، ص ۵۴ .
11.سورة الإسراء ، الآية ۱۰۸ .