153
حکم لقمان

ولكِنّي والِدٌ ، ومِنّي رِقَّةُ الوالِدِ .
وأمّا ما قُلتَ : كَيفَ يَكونُ هذا خَيرٌ لي ، فَلَعَلَّ ما صُرِفَ عَنكَ ـ يا بُنَيَّ ـ أعظَمُ مِمَّا ابتُليتَ بِهِ ، ولَعَلَّ مَا ابتُليتَ بِهِ أيسَرُ مِمّا صُرِفَ عَنكَ .
فَبَينا هُوَ يُحاوِرُهُ إذ نَظَرَ لُقمانُ هكَذا أمامَهُ فَلَم يَرَ ذلِكَ الدُّخانَ وَالسَّوادَ ، فَقالَ في نَفسِهِ : لَم أرَ ثَمَّ شَيئاً!؟ قالَ : قَد رَأَيتُ ، ولكِن لَعَلَّ أن يَكونَ قَد أحدَثَ رَبّي بِما رَأَيتُ شَيئاً .
فَبَينا هُوَ يَتَفَكَّرُ في هذا إذ نَظَرَ أمامَهُ فَإِذا هُوَ بِشَخصٍ قَد أقبَلَ عَلى فَرَسٍ أبلَقَ ، عَلَيهِ ثِيابٌ بَياضٌ ، وعِمامَةٌ بَيضاءُ يَمسَحُ الهَواءَ مَسحاً ، فَلَم يَزَل يَرمُقُهُ بِعَينِهِ حَتّى كانَ مِنهُ قَريباً فَتَوارى عَنهُ ثُمَّ صاحَ بِهِ فَقالَ : أنتَ لُقمانُ؟
قالَ : نَعَم .
قالَ : أنتَ الحَكيمُ؟
قالَ : كَذلِكَ يُقالُ ، وكَذلِكَ نَعَتَني رَبّي .
قالَ : ما قالَ لَكَ ابنُكَ هذَا السَّفيهُ؟
قالَ : يا عَبدَ اللّهِ ، مَن أنتَ أسمَعُ كَلامَكَ ، ولا أرى وَجهَكَ؟
قالَ : أنَا جِبريلُ ، لا يَراني إلاّ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ، أو نَبِيٌّ مُرسَلٌ ، لَولا ذلِكَ لَرَأَيتَني ، فَما قالَ لَكَ ابنُكَ هذَا السَّفيهُ؟
قالَ : قالَ لُقمانُ في نَفسِهِ : إن كُنتَ أنتَ جِبريلَ ، فَأَنتَ أعلَمُ بِما قالَهُ ابني مِنّي .


حکم لقمان
152

قالَ : فَخَرَجَ وهُوَ عَلى حِمارٍ ، وَابنُهُ عَلى حِمارٍ ، وتَزَوَّدوا ما يُصلِحُهُم مِن زادٍ ، ثُمَّ سارا أيّاماً ولَيالِيَ حَتّى تَلَقَّتهُما مَغارَةٌ ، فَأَخَذا اُهبَتَهُما لَها ، فَدَخَلاها فَسارا ما شاءَ اللّهُ أن يَسيرا حَتّى ظَهَرا وقَد تَعالَى النَّهارُ ، وَاشتَدَّ الحَرُّ ، ونَفَدَ الماءُ وَالزّادُ ، وَاستَبطَئا حِمارَيهِما ، فَنَزَلَ لُقمانُ ونَزَلَ ابنُهُ ، فَجَعَلا يَشتَدّانِ عَلى سَوقِهِما .
فَبَينا هُما كَذلِكَ إذ نَظَرَ لُقمانُ أمامَهُ ، فَإِذا هُوَ بِسَوادٍ ودُخانٍ ، فَقالَ في نَفسِهِ : السَّوادُ سَحَرٌ ۱ ، وَالدُّخانُ عُمرانٌ وناسٌ .
فَبَينَما كَذلِكَ يَسيرانِ إذ وَطِئَ ابنُ لُقمانَ عَلى عَظمٍ ناتِئٍ عَلَى الطَّريقِ ، فَدَخَلَ مِن باطِنِ القَدَمِ حَتّى ظَهَرَ مِن أعلاها ، فَخَرَّ ابنُ لُقمانَ مَغشِيّاً عَلَيهِ ، فَحانَت مِن لُقمانَ التِفاتَةٌ ، فَإِذا هُوَ بِابنِهِ صَريعٌ ، فَوَثَبَ إلَيهِ فَضَمَّهُ إلى صَدرِهِ ، وَاستَخرَجَ العَظمَ بِأَسنانِهِ ، وَاشتَقَّ عِمامَهً كانَت عَلَيهِ فَلاثَ بِها رِجلَهُ ، ثُمَّ نَظَرَ إلى وَجهِ ابنِهِ فَذَرَفَت عَيناهُ فَقَطَرَت قَطرَةٌ مِن دُموعِهِ عَلى خَدِّ الغُلامِ ، فَانتَبَهَ لَها ، فَنَظَرَ إلى أبيهِ وهُوَ يَبكي .
فَقالَ : يا أبَتِ أنتَ تَبكي وأنتَ تَقولُ : هذا خَيرٌ لي ، كَيفَ يَكونُ هذا خَيرٌ لي وأنتَ تَبكي؟ وقَد نَفَدَ الطَّعامُ وَالماءُ ، وبَقيتُ أنَا وأنتَ في هذَا المَكانِ ، فَإِن ذَهَبتَ وتَرَكتَني عَلى حالي ذَهَبتَ بِهَمٍّ وغَمٍّ ما بَقيتَ ، وإن أقَمتَ مَعي مِتنا جَميعاً ، فَكَيفَ عَسى أن يَكونَ هذا خَيرٌ لي وأنتَ تَبكي .
قالَ : أمّا بُكائي ـ يا بُنَيَّ ـ فَوَدِدتُ أنّي أفتَديكَ بِجَميعِ حَظّي مِنَ الدُّنيا ،

1.في الدرّ المنثور : «شجر» بدل «سحر» ، وهو الأنسب .

  • نام منبع :
    حکم لقمان
    المساعدون :
    غلامعلی، مهدی
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 117074
الصفحه من 200
طباعه  ارسل الي