قُلتُ : جُعِلتُ فِداكَ فَأينَ أطلُبُهُم ؟
قالَ عليه السلام : على رُؤوس الجِبالِ وَأطرافِ المُدِنِ ، وَإذا دَخَلتَ مَدينَةً فَسَل عَمَّن لا يُجاوِرُهُم وَلا يُجاوِرونَهُ ، فَذلِكَ مُؤمِنٌ كما قالَ اللّهُ : «وَ جَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى»۱ ، وَاللّهِ لَقَد كانَ حَبيبُ النَّجّارُ وَحدَهُ .
يا ابنَ جُندَب ، كُلُّ الذُّنوبِ مَغفورَةٌ سِوى عُقوقِ أهلِ دَعوَتِكَ . وَكُلُّ البِرِّ مَقبولٌ إلاّ ما كانَ رِئاءً .
يا ابنَ جُندَب ، أحبِب في اللّهِ وَاستَمسِك بِالعُروَةِ الوُثقى ، وَاعتَصِم بِالهُدى ، يُقبَل عَمَلُكَ فَإنَّ اللّهَ يَقولُ : « إلا مَنَ آمَن وَ عَمِلَ صَــلِحًا ثُمَّ اهْتَدَى » ۲ فَلا يُقبَلُ إلاّ الإيمانُ ، وَلا إيمانَ إلاّ بِعَمَلٍ ، وَلا عَمَلَ إلاّ بِيَقينٍ ، وَلا يَقينَ إلاّ بِالخُشوعِ ، وَمِلاكُها كُلِّها الهُدى ، فَمَن اهتَدى يُقبَلُ عَمَلهُ وَصَعِدَ إلى المَلَكوتِ مُتَقَبَّلاً «وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَ اطٍ مُّسْتَقِيمٍ »۳ .
يا ابنَ جُندَب ، إن أحبَبتَ أن تجاوِرَ الجَليلَ في دارِهِ وَتَسكُنَ الفِردَوسَ في جِوارِهِ فَلتَهُن عَلَيكَ الدُّنيا ، وَاجعَل المَوتَ نُصبَ عَينِكَ ، وَلا تَدَّخِر شَيئاً لِغَدٍ ، وَاعلَم أنّ لَكَ ما قَدَّمتَ وَعَليكَ ما أخَّرتَ .
يا ابنَ جُندَب ، مَن حَرَمَ نفسَهُ كَسبَهُ فإنَّما يَجمَعُ لِغَيرِهِ ، وَمَن أطاعَ هَواهُ فَقَد أطاعَ عَدُوَّهُ ، مَن يَثِقُ بِاللّهِ يَكفِهِ ما أهَمَّهُ مِن أمرِ دُنياهُ وَآخِرَتِهِ ، وَيَحفَظ لَهُ ما غابَ عَنهُ ، وَقَد عَجَزَ مَن لَم يُعِدَّ لِكُلِّ بَلاءٍ صَبراً وَلِكُلِّ نِعمَةٍ شُكراً ، وَلِكُلِّ عُسرٍ يُسراً .
صَبِّر نَفسَكَ عِندَ كُلِّ بَلِيَّةٍ في وَلَدٍ أو مالٍ أو رَزِيَّةٍ ، فَإنَّما يَقبَضُ عارِيَتَهُ وَيَأخُذُ هِبَتَهُ ، لِيَبلُوَ فيهِما صَبرَكَ وَشُكرَكَ . وَارجُ اللّهَ رَجاءً لا يُجَرّيكَ على مَعصِيَتِهِ ، وَخَفهُ خَوفاً لا يُؤيِسُكَ مِن رَحمَتِهِ ، وَلا تَغتَرَّ بِقَولِ الجاهِلِ وَلا بِمَدحِهِ ، فَتَكَبَّرُ وَتَجَبَّرُ وَتُعجَبُ بِعَمَلِكَ ، فإنَّ أفضَلَ العَمَلِ العِبادَةُ وَالتَّواضُعُ .
فلا تُضَيِّع مالَكَ وَتُصلِح مالَ غَيرِكَ ما خَلَّفتَهُ وَراءَ ظَهرِكَ . وَاقنَع بِما قَسَمَهُ اللّهُ لَكَ . وَلا تَنظُر إلاّ إلى ما عِندَكَ . وَلا تَتَمَنَّ ما لَستَ تَنالُهُ ، فإنَّ مَن قَنَعَ شَبِعَ ، وَمَن لَم يَقنَع لَم يَشبَع ، وَخُذ حَظَّكَ مِن