211
مكاتيب الأئمّة ج4

سَبَّكَ ، وَأنصِف مَن خاصَمَكَ وَاعفُ عَمَّن ظَلَمَكَ ، كَما أنَّكَ تُحِبُّ أن يُعفى عَنكَ ، فَاعتَبِر بِعَفوِ اللّهِ عَنكَ ، ألا تَرى أنَّ شَمسَهُ أشرَقَت على الأبرارِ وَالفُجّارِ ، وَأنَّ مَطَرَهُ يَنزِلُ على الصّالِحينَ وَالخاطِئينَ .
يا ابنَ جُندَب ، لا تَتَصَدَّق على أعيُنِ النّاسِ لِيُزَكّوكَ ، فَإنَّكَ إن فَعَلتَ ذلِكَ فَقَد استَوفَيتَ أجرَكَ ، وَلكِن إذا أعطَيتَ بِيَمينِكَ فَلا تُطلِع عَلَيها شِمالَكَ ، فإنّ الّذي تَتَصَدَّقُ لَهُ سِرّاً يَجزيكَ عَلانِيَةً على رُؤوسِ الأشهادِ في اليَومِ الّذي لا يَضُرُّكَ أن لا يَطَّلِعَ النَّاسُ على صَدَقَتِكَ ، وَاخفِض الصَّوتَ ، إنّ رَبَّكَ الّذي يَعلَمُ ما تُسِرّونَ وَما تُعلِنونَ ، قَد عَلِمَ ما تُريدونَ قَبل أن تَسألوهُ ، وَإذا صُمتَ فَلا تَغتَب أحَداً ، وَلا تُلبِسوا صيامَكُم بِظُلمٍ ، وَلا تَكُن كالّذي يَصومُ رِئاءَ النّاسِ ، مُغبَرَّةً وُجوهُهُم ، شَعِثَةً رُؤوسُهُم ، يابِسَةً أفواهُهُم لِكي يَعلَمَ النّاسُ أنَّهُم صيامٌ .
يا ابنَ جُندَب ، الخَيرُ كُلُّه أمامَكَ ، وَإنّ الشَّرَّ كُلَّه أمامَكَ ، وَلَن تَرى الخَيرَ وَالشَّرَّ إلاّ بَعدَ الآخِرَةِ ، لأنَّ اللّهَ جَلَّ وَعَزَّ جَعَلَ الخَيرَ كُلَّهُ في الجَنَّةِ وَالشَّرَّ كُلَّهُ في النَّارِ ، لِأنَّهُما الباقِيانِ .
وَالواجِبُ على مَن وَهَبَ اللّهُ لَهُ الهُدى وَأكرَمَهُ بِالإيمانِ ، وَألهَمَهُ رُشدَهُ ، وَرَكّبَ فيهِ عَقلاً يَتَعَرَّفُ بهِ نِعمَهُ ، وَآتاهُ عِلماً وَحُكماً ، يُدَبِّرُ بهِ أمرَ دينِهِ وَدُنياهُ أن يُوجِبَ على نَفسِهِ أن يَشكُرَ اللّهَ وَلا يَكفُرَهُ ، وَأن يَذكُرَ اللّهَ وَلا يَنساهُ ، وَأن يُطيعَ اللّهَ وَلا يَعصِيَهُ ، لِلقَديمِ الّذي تَفَرَّدَ لَهُ بِحُسنِ النَّظَرِ ، وَلِلحَديثِ الّذي أنعَمَ عَلَيهِ بَعدَ إذ أنشَأهُ مَخلوقاً، وَلِلجَزيلِ الّذي وَعَدَهُ ، وَالفَضلِ الّذي لَم يُكَلِّفهُ مِن طاعَتِهِ فَوقَ طاقَتِهِ ، وَما يَعجِزُ عَن القِيامِ بِهِ ، وَضَمِنَ لَهُ العَونَ على تَيسيرِ ما حَمَلَهُ مِن ذلِكَ ، وَنَدبَهُ إلى الاستِعانَةِ على قَليلِ ما كَلَّفَهُ ، وَهُوَ مُعرِضٌ عَمّا أمَرَهُ ، وَعاجِزٌ عَنهُ ، قَد لَبِسَ ثَوبَ الاستِهانَةِ فيما بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ ، مُتَقَلِّداً لِهَواهُ ، ماضِياً في شَهواتِهِ ، مُؤثِراً لِدُنياهُ على آخِرَتِهِ ، وَهُو في ذلِكَ يَتَمنّى جِنانَ الفِردَوسِ ، وَما يَنبَغي لِأحَدٍ أن يَطمَعَ أن يَنزِلَ بِعَمَلِ الفُجَّارِ مَنازِلَ الأبرارِ .
أما إنَّهُ لَو وَقَعَت الواقِعَةُ ، وَقامَتِ القيامَةُ ، وَجاءَتِ الطّامَّةُ ، وَنَصَبَ الجَبَّارُ المَوازينَ لِفَصلِ القَضاءِ وَبَرَز الخَلائِقُ لِيَوم الحِسابِ ، أيقَنتَ عِندَ ذلِكَ لِمَن تَكونُ الرِّفعَةُ وَالكَرامَةُ ؟ وَبِمَن تَحِلُّ الحَسرَةُ وَالنَّدامَةُ ؛ فاعمَل اليَومَ في الدُّنيا بِما تَرجو بِهِ الفَوزَ في الآخِرَةِ .


مكاتيب الأئمّة ج4
210

آخِرَتِكَ ، وَلا تَكُن بَطِراً في الغِنى ، وَلا جَزِعاً في الفَقرِ ، وَلا تَكُن فَظّاً غَليظاً يَكرَهُ النّاسُ قُربَكَ وَلا تَكُن واهِناً يُحَقِّرُكَ مَن عَرَفَكَ . وَلا تُشارَّ مَن فَوقَكَ وَلا تَسخَر بِمَن هُوَ دونَكَ . وَلا تُنازِع الأمرَ أهلَهُ ، وَلا تُطِع السُّفَهاءَ ، وَلا تَكُن مَهيناً تَحتَ كُلِّ أحَدٍ، وَلا تَتَّكِلَنَّ على كِفايَةِ أحَدٍ ، وَقِف عِندَ كُلِّ أمرٍ حَتّى تَعرِفَ مُدخَلَهُ مِن مَخرَجِهِ قَبلَ أن تَقَعَ فيهِ فَتَندَمَ .
وَاجعَل قَلبَكَ قَريباً تُشارِكُهُ ، وَاجعَل عَمَلَكَ والِداً تتَّبِعُهُ ، وَاجعَل نفسَكَ عَدُوّاً تُجاهِدُهُ وَعارِيَةً تَرُدُّها ، فَإنَّكَ قَد جُعِلتَ طَبيبَ نَفسِكَ ، وَعَرَفتَ آيَةَ الصِّحَةِ وَبُيِّنَ لَكَ الدّاءُ وَدُلِلتَ عَلى الدَّواءِ .
فَانظُر قيامَكَ على نَفسِكَ ، وَإن كانَت لَكَ يَدٌ عِندَ إنسانٍ فَلا تُفسِدها بِكَثرَةِ المَنِّ وَالذّكرِ لَها ، وَلكِن أتبِعها بأفضَلَ مِنها ، فَإنّ ذلِكَ أجمَلُ بِكَ في أخلاقِكَ ، وَأوجَبُ لِلثَّوابِ في آخِرَتِكَ .
وَعَلَيكَ بالِصَّمتِ تُعَدُّ حَليماً ـ جاهِلاً كُنتَ أو عالِماً ـ فإنَّ الصّمتَ زَينٌ لَكَ عِندَ العُلماءِ ، وَسِترٌ لَكَ عِندَ الجُهّالِ .
يا ابنَ جُندَب ، إنّ عيسى بنَ مَريَم عليه السلام قالَ لأصحابِهِ : أَرأيتُم لَو أنّ أحَدَكُم مَرَّ بِأخيهِ فَرَأى ثَوبَهُ قَدِ انكَشَفَ عَن بَعضِ عَورَتِهِ ، أكانَ كاشِفاً عَنها كُلِّها أم يَرُدّ عَلَيها ما انكَشَفَ مِنها ؟
قالوا : بَل نَرُدُّ عَلَيها .
قالَ : كَلاّ، بَل تَكشِفونَ عَنها كُلِّها ـ فَعَرفوا أنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ لَهُم ـ .
فَقيلَ : يا روحَ اللّهِ وَكَيفَ ذلِكَ؟
قالَ : الرَّجُلُ مِنكُم يَطَّلِعُ على العَورَةِ مِن أخيهِ فَلا يَستُرُها ، بِحَقٍّ أقولُ لَكُم إنَّكُم لا تُصيبونَ ما تُريدونَ إلاّ بِتَرِكِ ما تَشتَهونَ ، وَلا تَنالونَ ما تَأملونَ إلاّ بِالصَّبرِ عَلى ما تَكرَهونَ ، إيّاكُم وَالنَّظرَةَ فإنَّها تَزرَعُ في القَلبِ الشَّهوَةَ ، وَكَفى بِها لِصاحِبِها فِتنَةً ، طوبى لِمَن جَعَل بَصَرَهُ في قَلبِهِ ، وَلَم يَجعَل بَصَرَه في عَينِهِ ، لا تَنظُروا في عُيوبِ النّاسِ كَالأربابِ ، وَانظُروا في عُيوبِكُم كَهَيئَةِ العَبيدِ ، إنَّما النّاسُ رَجُلانِ : مُبتَلىً وَمُعافىً ، فارحَموا المُبتَلى وَاحمِدوا اللّهَ عَلى العافِيَةِ .
يا ابنَ جُندَب ، صِل مَن قَطَعَكَ ، وَأعطِ مَن حَرَمَكَ ، وَأحسِن إلى مَن أساءَ إلَيكَ ، وَسَلِّم على مَن

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج4
    المساعدون :
    الفرجی، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 95369
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي