سَبَّكَ ، وَأنصِف مَن خاصَمَكَ وَاعفُ عَمَّن ظَلَمَكَ ، كَما أنَّكَ تُحِبُّ أن يُعفى عَنكَ ، فَاعتَبِر بِعَفوِ اللّهِ عَنكَ ، ألا تَرى أنَّ شَمسَهُ أشرَقَت على الأبرارِ وَالفُجّارِ ، وَأنَّ مَطَرَهُ يَنزِلُ على الصّالِحينَ وَالخاطِئينَ .
يا ابنَ جُندَب ، لا تَتَصَدَّق على أعيُنِ النّاسِ لِيُزَكّوكَ ، فَإنَّكَ إن فَعَلتَ ذلِكَ فَقَد استَوفَيتَ أجرَكَ ، وَلكِن إذا أعطَيتَ بِيَمينِكَ فَلا تُطلِع عَلَيها شِمالَكَ ، فإنّ الّذي تَتَصَدَّقُ لَهُ سِرّاً يَجزيكَ عَلانِيَةً على رُؤوسِ الأشهادِ في اليَومِ الّذي لا يَضُرُّكَ أن لا يَطَّلِعَ النَّاسُ على صَدَقَتِكَ ، وَاخفِض الصَّوتَ ، إنّ رَبَّكَ الّذي يَعلَمُ ما تُسِرّونَ وَما تُعلِنونَ ، قَد عَلِمَ ما تُريدونَ قَبل أن تَسألوهُ ، وَإذا صُمتَ فَلا تَغتَب أحَداً ، وَلا تُلبِسوا صيامَكُم بِظُلمٍ ، وَلا تَكُن كالّذي يَصومُ رِئاءَ النّاسِ ، مُغبَرَّةً وُجوهُهُم ، شَعِثَةً رُؤوسُهُم ، يابِسَةً أفواهُهُم لِكي يَعلَمَ النّاسُ أنَّهُم صيامٌ .
يا ابنَ جُندَب ، الخَيرُ كُلُّه أمامَكَ ، وَإنّ الشَّرَّ كُلَّه أمامَكَ ، وَلَن تَرى الخَيرَ وَالشَّرَّ إلاّ بَعدَ الآخِرَةِ ، لأنَّ اللّهَ جَلَّ وَعَزَّ جَعَلَ الخَيرَ كُلَّهُ في الجَنَّةِ وَالشَّرَّ كُلَّهُ في النَّارِ ، لِأنَّهُما الباقِيانِ .
وَالواجِبُ على مَن وَهَبَ اللّهُ لَهُ الهُدى وَأكرَمَهُ بِالإيمانِ ، وَألهَمَهُ رُشدَهُ ، وَرَكّبَ فيهِ عَقلاً يَتَعَرَّفُ بهِ نِعمَهُ ، وَآتاهُ عِلماً وَحُكماً ، يُدَبِّرُ بهِ أمرَ دينِهِ وَدُنياهُ أن يُوجِبَ على نَفسِهِ أن يَشكُرَ اللّهَ وَلا يَكفُرَهُ ، وَأن يَذكُرَ اللّهَ وَلا يَنساهُ ، وَأن يُطيعَ اللّهَ وَلا يَعصِيَهُ ، لِلقَديمِ الّذي تَفَرَّدَ لَهُ بِحُسنِ النَّظَرِ ، وَلِلحَديثِ الّذي أنعَمَ عَلَيهِ بَعدَ إذ أنشَأهُ مَخلوقاً، وَلِلجَزيلِ الّذي وَعَدَهُ ، وَالفَضلِ الّذي لَم يُكَلِّفهُ مِن طاعَتِهِ فَوقَ طاقَتِهِ ، وَما يَعجِزُ عَن القِيامِ بِهِ ، وَضَمِنَ لَهُ العَونَ على تَيسيرِ ما حَمَلَهُ مِن ذلِكَ ، وَنَدبَهُ إلى الاستِعانَةِ على قَليلِ ما كَلَّفَهُ ، وَهُوَ مُعرِضٌ عَمّا أمَرَهُ ، وَعاجِزٌ عَنهُ ، قَد لَبِسَ ثَوبَ الاستِهانَةِ فيما بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ ، مُتَقَلِّداً لِهَواهُ ، ماضِياً في شَهواتِهِ ، مُؤثِراً لِدُنياهُ على آخِرَتِهِ ، وَهُو في ذلِكَ يَتَمنّى جِنانَ الفِردَوسِ ، وَما يَنبَغي لِأحَدٍ أن يَطمَعَ أن يَنزِلَ بِعَمَلِ الفُجَّارِ مَنازِلَ الأبرارِ .
أما إنَّهُ لَو وَقَعَت الواقِعَةُ ، وَقامَتِ القيامَةُ ، وَجاءَتِ الطّامَّةُ ، وَنَصَبَ الجَبَّارُ المَوازينَ لِفَصلِ القَضاءِ وَبَرَز الخَلائِقُ لِيَوم الحِسابِ ، أيقَنتَ عِندَ ذلِكَ لِمَن تَكونُ الرِّفعَةُ وَالكَرامَةُ ؟ وَبِمَن تَحِلُّ الحَسرَةُ وَالنَّدامَةُ ؛ فاعمَل اليَومَ في الدُّنيا بِما تَرجو بِهِ الفَوزَ في الآخِرَةِ .