وَلَعمري ما أُتِيَ الجُهَّالُ مِن قِبَلِ رَبِّهِم وَأنَّهُم لَيَرَونَ الدِّلالاتِ الواضِحاتِ وَالعَلاماتِ البَيِّناتِ في خَلقِهِم ، وَما يُعايِنونَ مِن مَلَكوتِ السَّماواتِ وَالأرضِ وَالصُّنعِ العَجيبِ المُتقَنِ الدَّالِّ عَلى الصّانِعِ ، وَلكِنَّهُم قَومٌ فَتَحوا عَلى أنفُسِهِم أبوابَ المَعاصي ، وَسَهّلوا لَها سَبيلَ الشّهواتِ ، فَغَلَبت الأهواءُ على قُلُوبِهِم ، وَاستَحوَذَ الشَّيطانُ بِظُلمِهِم عَلَيهِم ، وَكذلِكَ يَطبَعُ اللّهُ عَلى قُلوبِ المُعتَدينَ .
والعَجَبُ مِن مَخلوقٍ يَزعُمُ أنّ اللّهَ يَخفى عَلى عِبادِهِ وَهُوَ يَرى أَثَرَ الصُّنعِ في نَفسِهِ بِتَركيبٍ يَبهَرُ عَقلَهُ ، وَتأليفٍ يُبطِلُ حُجَّتَهُ .
وَلَعَمري لَو تَفَكَّروا في هذهِ الأُمورِ العِظامِ لَعايَنوا مِن أمرِ التَّركيبِ البَيِّنِ ، وَلُطفِ التَّدبيرِ الظّاهِرِ ، وَوُجودِ الأشياءِ مَخلوقَةً بَعدَ أن لَم تَكُن ، ثُمَّ تَحَوُّلُها مِن طَبيعَةٍ إلى طَبيعَةٍ ، وَصنيعَةٍ بَعدَ صَنيعَةٍ ، ما يَدُلُّهُم ذلِكَ عَلى الصَّانِعِ ، فَإنّهُ لا يَخلو شَيءٌ مِنها مِن أن يَكونَ فيهِ أثرُ تَدبيرٍ وَتَركيبٍ يَدُلُّ عَلى أنَّ لَهُ خَالِقاً مُدَبِّراً، وَتأليفٌ بِتَدبيرٍ يَهدي إلى واحِدٍ حَكيمٍ .
وَقَد وَافاني كِتابُكَ وَرَسَمتُ لَكَ كِتاباً كُنتُ نازَعتُ فيهِ بَعضَ أهلِ الأديانِ مِن أهلِ الإنكارِ ، وَذلِكَ أنَّهُ كانَ يَحضُرُني طَبيبٌ من بِلادِ الهِندِ ، وَكانَ لا يَزالُ يُنازِعُني في رَأيِهِ ، وَيُجادِلُني عَلى ضَلالَتِهِ ، فَبَينا هُوَ يَوماً يَدُقُّ إهليلجَةً لِيَخلِطَها دَواءً احتَجتُ إلَيهِ مِن أدوِيَتِهِ ، إذ عَرَضَ لَهُ شَيءٌ مِن كلامِهِ الّذي لَم يَزَل يُنازِعُني فيهِ مِنِ ادِّعائِهِ أنَّ الدُّنيا لَم تَزَل وَلا تَزالُ شَجَرَةً تَنبُتُ وَاُخرى تَسقُطُ ، نَفسٌ تولَدُ وَاُخرى تَتلَفُ ، وَزَعَمَ أنَّ انتِحالي المَعرِفَةَ للّهِِ تَعالى دَعوَى لا بَيّنَةَ لي عَلَيها، وَلا حُجَّةَ لي فيها، وَأنَّ ذلِكَ أمرٌ أخَذَهُ الآخِرُ عَنِ الأَوَّلِ ، وَالأصغَرُ عَنِ الأكبَرِ ، وَأنَّ الأشياءَ المُختَلِفَةَ وَالمُولِفَةَ وَالباطِنَةَ وَالظّاهِرَةَ إنَّما تُعرَفُ بِالحَواسِّ الخَمسِ : نَظَرِ العَينِ ، وَسَمعِ الأُذُنِ ، وَشَمِّ الأنفِ ، وَذَوقِ الفَمِ ، وَلَمسِ الجَوارِحِ ، ثُمَّ قادَ مَنطِقَهُ عَلى الأصلِ الّذي وَضَعَهُ فَقالَ : لَم يَقَع شَيءٌ مِن حَواسّي عَلى خالِقٍ يُوي إلى قَلبي، إنكاراً للّهِِ تَعالى .