29
مكاتيب الأئمّة ج4

وَلَعمري ما أُتِيَ الجُهَّالُ مِن قِبَلِ رَبِّهِم وَأنَّهُم لَيَرَونَ الدِّلالاتِ الواضِحاتِ وَالعَلاماتِ البَيِّناتِ في خَلقِهِم ، وَما يُعايِنونَ مِن مَلَكوتِ السَّماواتِ وَالأرضِ وَالصُّنعِ العَجيبِ المُتقَنِ الدَّالِّ عَلى الصّانِعِ ، وَلكِنَّهُم قَومٌ فَتَحوا عَلى أنفُسِهِم أبوابَ المَعاصي ، وَسَهّلوا لَها سَبيلَ الشّهواتِ ، فَغَلَبت الأهواءُ على قُلُوبِهِم ، وَاستَحوَذَ الشَّيطانُ بِظُلمِهِم عَلَيهِم ، وَكذلِكَ يَطبَعُ اللّهُ عَلى قُلوبِ المُعتَدينَ .
والعَجَبُ مِن مَخلوقٍ يَزعُمُ أنّ اللّهَ يَخفى عَلى عِبادِهِ وَهُوَ يَرى أَثَرَ الصُّنعِ في نَفسِهِ بِتَركيبٍ يَبهَرُ عَقلَهُ ، وَتأليفٍ يُبطِلُ حُجَّتَهُ .
وَلَعَمري لَو تَفَكَّروا في هذهِ الأُمورِ العِظامِ لَعايَنوا مِن أمرِ التَّركيبِ البَيِّنِ ، وَلُطفِ التَّدبيرِ الظّاهِرِ ، وَوُجودِ الأشياءِ مَخلوقَةً بَعدَ أن لَم تَكُن ، ثُمَّ تَحَوُّلُها مِن طَبيعَةٍ إلى طَبيعَةٍ ، وَصنيعَةٍ بَعدَ صَنيعَةٍ ، ما يَدُلُّهُم ذلِكَ عَلى الصَّانِعِ ، فَإنّهُ لا يَخلو شَيءٌ مِنها مِن أن يَكونَ فيهِ أثرُ تَدبيرٍ وَتَركيبٍ يَدُلُّ عَلى أنَّ لَهُ خَالِقاً مُدَبِّراً، وَتأليفٌ بِتَدبيرٍ يَهدي إلى واحِدٍ حَكيمٍ .
وَقَد وَافاني كِتابُكَ وَرَسَمتُ لَكَ كِتاباً كُنتُ نازَعتُ فيهِ بَعضَ أهلِ الأديانِ مِن أهلِ الإنكارِ ، وَذلِكَ أنَّهُ كانَ يَحضُرُني طَبيبٌ من بِلادِ الهِندِ ، وَكانَ لا يَزالُ يُنازِعُني في رَأيِهِ ، وَيُجادِلُني عَلى ضَلالَتِهِ ، فَبَينا هُوَ يَوماً يَدُقُّ إهليلجَةً لِيَخلِطَها دَواءً احتَجتُ إلَيهِ مِن أدوِيَتِهِ ، إذ عَرَضَ لَهُ شَيءٌ مِن كلامِهِ الّذي لَم يَزَل يُنازِعُني فيهِ مِنِ ادِّعائِهِ أنَّ الدُّنيا لَم تَزَل وَلا تَزالُ شَجَرَةً تَنبُتُ وَاُخرى تَسقُطُ ، نَفسٌ تولَدُ وَاُخرى تَتلَفُ ، وَزَعَمَ أنَّ انتِحالي المَعرِفَةَ للّهِِ تَعالى دَعوَى لا بَيّنَةَ لي عَلَيها، وَلا حُجَّةَ لي فيها، وَأنَّ ذلِكَ أمرٌ أخَذَهُ الآخِرُ عَنِ الأَوَّلِ ، وَالأصغَرُ عَنِ الأكبَرِ ، وَأنَّ الأشياءَ المُختَلِفَةَ وَالمُولِفَةَ وَالباطِنَةَ وَالظّاهِرَةَ إنَّما تُعرَفُ بِالحَواسِّ الخَمسِ : نَظَرِ العَينِ ، وَسَمعِ الأُذُنِ ، وَشَمِّ الأنفِ ، وَذَوقِ الفَمِ ، وَلَمسِ الجَوارِحِ ، ثُمَّ قادَ مَنطِقَهُ عَلى الأصلِ الّذي وَضَعَهُ فَقالَ : لَم يَقَع شَيءٌ مِن حَواسّي عَلى خالِقٍ يُوي إلى قَلبي، إنكاراً للّهِِ تَعالى .


مكاتيب الأئمّة ج4
28

محمّد الصّادق عليهماالسلام يُعلِمُهُ أنّ أقواماً ظهروا من أهل هذه الملّة يجحدون الرّبوبيّة، ويجادلون على ذلك، ويسأله أن يردّ عليهم قولهم ، ويحتجّ عليهم فيما ادّعوا بحسب ما احتجّ به على غيرهم . فكتب أبو عبد اللّه عليه السلام :بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أمّا بَعدُ ، وَفَّقَنا اللّهُ وَإيَّاكَ لِطاعَتِهِ ، وَأوجَبَ لَنا بِذلِكَ رِضوانَهُ بِرَحمَتِهِ ، وَصَلَ كِتابُكَ تَذكُرُ فيهِ ما ظَهَرَ في مِلَّتِنا، وَذلِكَ مِن قَومٍ مِن أهلِ الإلحادِ بِالرُّبوبِيَّةِ قَد كَثُرَت عِدَّتُهُم ، وَاشتَدَّت خُصومَتُهُم ، وَتَسألُ أن أصنَعَ لِلرَدِّ عَلَيهِم وَالنَّقضِ لِما في أيديهم كِتاباً عَلى نَحوِ ما رَدَدتُ عَلى غَيرِهِم مِن أهلِ البِدَعِ وَالاختِلافِ ، وَنَحنُ نَحمَدُ اللّهَ عَلى النِّعَمِ السّابِغَةِ وَالحُجَجِ البالِغَةِ وَالبَلاءِ المَحمودِ عِندَ الخاصَّةِ وَالعامَّةِ ، فَكانَ مِن نِعَمِهِ العِظامِ وَآلائِهِ الجِسامِ الَّتي أنعَمَ بِها تَقريرُهُ قُلوبَهُم بِرُبوبِيَّتِهِ ، وَأخذُهُ ميثاقَهُم بِمَعرِفَتِهِ ، وإنزالِهِ عَلَيهِم كتاباً فيه شِفاءٌ لِما في الصُّدورِ مِن أمراضِ الخَواطِرِ وَمُشتَبِهاتِ الأُمورِ ، وَلَم يَدَع لَهُم وَلا لِشَيءٍ مِن خَلقِهِ حاجَةً إلى مَن سِواهُ ، وَاستَغنى عَنهُم ، وَكانَ اللّهُ غَنِيّاً حَميداً.

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج4
    المساعدون :
    الفرجی، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 114649
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي