طُرِحَت فيهِ فِراخُ طَيرِ البَرِّ غَرَقَت ، وَالحَواسُّ واحِدَةٌ ، فَكَيفَ انتفَعَ بالحَواسِّ طَيرُ الماءِ وَأعانَتهُ عَلى السِّباحَةِ وَلَم تَنتَفِع طَيرُ البَرِّ في الماءِ بِحَواسِّها ؟ وَما بالُ طَيرِ البَرِّ إذا غَمَستَها في الماءِ ساعَةً ماتَت وإذا أمسَكتَ طَيرَ الماءِ عَنِ الماءِ ساعَةً ماتَت ؟ فَلا أرى الحَواسَّ في هذا إلاّ مُنكَسِرَةً عَلَيكَ ، وَلا يَنبغي ذلِكَ أن يَكونَ إلاّ مِن مُدَبِّرٍ حَكيمٍ جَعَلَ لِلماءِ خَلقاً وَلِلبَرِّ خَلقاً .
أم أخبِرني ما بالُ الذَّرَّةِ الّتي لا تُعايِنُ الماءَ قَطُّ تُطرَحُ في الماءِ فَتَسبَحُ ، وَتَلقى الإنسانَ ابنَ خَمسينَ سَنَةً مِن أقوى الرِّجالِ وَأعقَلِهِم لَم يَتَعَلّمِ السِّباحَةَ فَيَغرَقُ ؟ كَيفَ لَم يَدُلُّهُ عَقلُهُ وَلُبُّهُ وَتَجارِبُهُ وَبَصَرُهُ بِالأشياءِ مَعَ اجتِماعِ حَواسِّهِ وصِحَّتِها أن يُدرِكَ ذلِكَ بِحواسّهِ كَما أدرَكَتهُ الذَّرَّةُ إن كانَ ذلِكَ إنَّما يُدرَكُ بِالحَواسِّ ؟ أفَلَيسَ يَنبَغي لَكَ أن تَعلَمَ أنَّ القَلبَ الّذي هُوَ مَعدِنُ العَقلِ في الصَّبيِّ الّذي وَصَفتَ وَغَيرِهِ مِمَا سَمِعتَ مِنَ الحَيوانِ هُوَ الّذي يُهَيّجُ الصَّبِيَّ إلى طَلَبِ الرِّضاعِ ، وَالطَّيرَ اللاّقِطَ عَلى لَقطِ الحَبِّ ، وَالسِّباعِ عَلى ابتلاعِ اللّحمِ .
قالَ : لَستُ أجِدُ القَلبَ يَعلَمُ شَيئاً إلاّ بالحَواسِّ !
قُلتُ : أمّا إذ أبَيتَ إلاّ النُّزوعَ إلى الحَواسِّ فَإنّا لَنَقبَلُ نُزوعَكَ إلَيها بَعدَ رَفضِكَ لَها ، وَنُجيبُكَ فِي الحَواسِّ حَتَّى يَتَقَرَّرَ عِندَكَ أنَّها لا تَعرِفُ مِن سائِرِ الأشياءِ إلاّ الظّاهِرَ مِمَّا هُوَ دونَ الرَّبِّ الأعلى سُبحانَهُ وَتَعالى .
فَأمّا ما يَخفى وَلا يَظهَرُ فَلَيسَت تَعرِفُهُ ، وَذلِكَ أنَّ خالِقَ الحَواسِّ جَعَلَ لَها قَلباً احتَجَّ بِهِ عَلى العِبادِ ، وَجَعَلَ لِلحَواسِّ الدِّلالاتِ عَلى الظّاهِرِ الّذي يُستَدَلُّ بِها عَلى الخالِقِ سُبحانَهُ ، فَنَظَرَتِ العَينُ إلى خَلقٍ مُتَّصِلٍ بَعضُهُ بِبَعضٍ فَدَلَّتِ القَلبَ عَلى ما عايَنَت ، وَتَفَكَّرَ القَلبُ حينَ دَلَّتهُ العَينُ عَلى ما عايَنَت مِن مَلَكوتِ السَّماءِ وَارتِفاعِها فِي الهَواءِ بِغَيرِ عَمَدٍ يُرى ، وَلا دعائِمَ تُمسِكُها ، لا تُوخّرُ مَرَّةً فَتَنكَشِطُ ، وَلا تُقَدِّمُ أُخرى فَتَزولُ ، ولا تَهبِطُ مَرَّةً فَتَدنو، وَلا تَرتَفِعُ أُخرى فَتَنأى، لا تَتَغَيَّرُ لِطولِ الأَمَدِ ،