39
مكاتيب الأئمّة ج4

طُرِحَت فيهِ فِراخُ طَيرِ البَرِّ غَرَقَت ، وَالحَواسُّ واحِدَةٌ ، فَكَيفَ انتفَعَ بالحَواسِّ طَيرُ الماءِ وَأعانَتهُ عَلى السِّباحَةِ وَلَم تَنتَفِع طَيرُ البَرِّ في الماءِ بِحَواسِّها ؟ وَما بالُ طَيرِ البَرِّ إذا غَمَستَها في الماءِ ساعَةً ماتَت وإذا أمسَكتَ طَيرَ الماءِ عَنِ الماءِ ساعَةً ماتَت ؟ فَلا أرى الحَواسَّ في هذا إلاّ مُنكَسِرَةً عَلَيكَ ، وَلا يَنبغي ذلِكَ أن يَكونَ إلاّ مِن مُدَبِّرٍ حَكيمٍ جَعَلَ لِلماءِ خَلقاً وَلِلبَرِّ خَلقاً .
أم أخبِرني ما بالُ الذَّرَّةِ الّتي لا تُعايِنُ الماءَ قَطُّ تُطرَحُ في الماءِ فَتَسبَحُ ، وَتَلقى الإنسانَ ابنَ خَمسينَ سَنَةً مِن أقوى الرِّجالِ وَأعقَلِهِم لَم يَتَعَلّمِ السِّباحَةَ فَيَغرَقُ ؟ كَيفَ لَم يَدُلُّهُ عَقلُهُ وَلُبُّهُ وَتَجارِبُهُ وَبَصَرُهُ بِالأشياءِ مَعَ اجتِماعِ حَواسِّهِ وصِحَّتِها أن يُدرِكَ ذلِكَ بِحواسّهِ كَما أدرَكَتهُ الذَّرَّةُ إن كانَ ذلِكَ إنَّما يُدرَكُ بِالحَواسِّ ؟ أفَلَيسَ يَنبَغي لَكَ أن تَعلَمَ أنَّ القَلبَ الّذي هُوَ مَعدِنُ العَقلِ في الصَّبيِّ الّذي وَصَفتَ وَغَيرِهِ مِمَا سَمِعتَ مِنَ الحَيوانِ هُوَ الّذي يُهَيّجُ الصَّبِيَّ إلى طَلَبِ الرِّضاعِ ، وَالطَّيرَ اللاّقِطَ عَلى لَقطِ الحَبِّ ، وَالسِّباعِ عَلى ابتلاعِ اللّحمِ .
قالَ : لَستُ أجِدُ القَلبَ يَعلَمُ شَيئاً إلاّ بالحَواسِّ !
قُلتُ : أمّا إذ أبَيتَ إلاّ النُّزوعَ إلى الحَواسِّ فَإنّا لَنَقبَلُ نُزوعَكَ إلَيها بَعدَ رَفضِكَ لَها ، وَنُجيبُكَ فِي الحَواسِّ حَتَّى يَتَقَرَّرَ عِندَكَ أنَّها لا تَعرِفُ مِن سائِرِ الأشياءِ إلاّ الظّاهِرَ مِمَّا هُوَ دونَ الرَّبِّ الأعلى سُبحانَهُ وَتَعالى .
فَأمّا ما يَخفى وَلا يَظهَرُ فَلَيسَت تَعرِفُهُ ، وَذلِكَ أنَّ خالِقَ الحَواسِّ جَعَلَ لَها قَلباً احتَجَّ بِهِ عَلى العِبادِ ، وَجَعَلَ لِلحَواسِّ الدِّلالاتِ عَلى الظّاهِرِ الّذي يُستَدَلُّ بِها عَلى الخالِقِ سُبحانَهُ ، فَنَظَرَتِ العَينُ إلى خَلقٍ مُتَّصِلٍ بَعضُهُ بِبَعضٍ فَدَلَّتِ القَلبَ عَلى ما عايَنَت ، وَتَفَكَّرَ القَلبُ حينَ دَلَّتهُ العَينُ عَلى ما عايَنَت مِن مَلَكوتِ السَّماءِ وَارتِفاعِها فِي الهَواءِ بِغَيرِ عَمَدٍ يُرى ، وَلا دعائِمَ تُمسِكُها ، لا تُوخّرُ مَرَّةً فَتَنكَشِطُ ، وَلا تُقَدِّمُ أُخرى فَتَزولُ ، ولا تَهبِطُ مَرَّةً فَتَدنو، وَلا تَرتَفِعُ أُخرى فَتَنأى، لا تَتَغَيَّرُ لِطولِ الأَمَدِ ،


مكاتيب الأئمّة ج4
38

قُلتُ : أفَتُقِرُّ بِأنَّ اللّهَ خَلَقَ الخَلقَ ؟ أم قَد بَقِيَ في نَفسِكَ شَيءٌ مِن ذَلِكَ ؟
قال: إنّي مِن ذلِكَ عَلى حَدِّ وُقوفٍ ، ما أتخَلَّصُ إلى أمرٍ يَنفَذُ لي فيهِ الأمرُ .
قُلتُ : أمّا إذ أبَيتَ إلاّ الجَهالَةَ وَزَعَمتَ أنَّ الأشياءَ لا يُدرَكُ إلاّ بِالحَواسِّ فَإنّي أُخبِرُكَ أنَّهُ لَيسَ لِلحواسِّ دِلالَةٌ عَلى الأشياءِ ، وَلا فيها مَعرِفَةٌ إلاّ بِالقَلبِ ، فَإنّهُ دَليلُها وَمُعَرِّفُها الأشياءَ الّتي تَدَّعي أنَّ القَلبَ لا يَعرِفُها إلاّ بِها .
فَقالَ : أمّا إذ نَطَقتَ بِهذا فَما أقبَلُ مِنكَ إلاّ بالتَخليصِ وَالتَفَحُّصِ مِنهُ بِأيضاحٍ وَبَيانٍ وَحُجَّةٍ وَبُرهانٍ .
قُلتُ : فَأَوَّلُ ما أبدَأ بِهِ أنّكَ تَعلَمُ أَنـّهُ رُبَّما ذَهَبَ الحَواسُّ ، أو بَعضُها وَدَبَّرَ القَلبُ الأشياءَ الّتي فيها المَضَرَّةُ وَالمَنفَعَةُ مِنَ الأُمورِ العَلانِيَّةِ وَالخَفِيَّةِ فَأمَرَ بِها وَنَهى ، فَنَفَذَ فيها أمرُهُ وَصَحَّ فيها قَضاوهُ .
قالَ : إنَّكَ تَقولُ في هذا قَولاً يُشبِهُ الحُجَّةَ ، وَلكِنّي أُحِبُّ أن تُوَضِّحَهُ لي غَيرَ هذا الإيضاحِ .
قُلتُ : أَلَستَ تَعلَمُ أنّ القَلبَ يَبقى بَعدَ ذِهابِ الحَواسِّ؟
قالَ : نَعَم وَلكن يَبقى بِغَيرِ دَليلٍ عَلى الأشياءِ الّتي تَدُلُّ عَلَيها الحَواسُّ .
قُلتُ : أَفَلَستَ تَعلَمُ أنَّ الطِفلَ تَضَعُهُ أُمُّهُ مُضغَةً لَيسَ تَدُلُّهُ الحَواسُّ عَلَى شَيءٍ يُسمَعُ وَلا يُبصَرُ وَلا يُذاقُ وَلا يُلمَسُ وَلا يُشَمُّ؟
قال: بلى.
قُلتُ : فَأيَّةُ الحَواسِّ دَلَّتهُ عَلى طَلَبِ اللَّبَنِ إذا جاعَ ، وَالضَّحِكِ بَعدَ البُكاءِ إذا رَوى مِنَ اللَّبَنِ ؟ وَأيُّ حَواسِّ سِباعِ الطَّيرِ وَلاقِطِ الحَبِّ مِنها ، دَلَّها عَلى أن تُلقِيَ بَينَ أفراخِها اللَّحمَ وَالحَبَّ فَتَهوي سِباعُها إلَى اللَّحمِ ، وَالآخَرونَ إلى الحَبِّ ؟ وَأخبِرني عَن فِراخِ طَيرِ الماءِ ألَستَ تَعلَمُ أنّ فِراخَ طَيرِ الماءِ إذا طُرِحَت فيهِ سَبَحَت ، وَإذا

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج4
    المساعدون :
    الفرجی، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 114540
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي