41
مكاتيب الأئمّة ج4

المُتَحَرِّكَةُ لَم تَكفُف عَنِ التَّحَرُّكِ ، وَلَم تَهدِم طائِفَةً وَتُعَفّي أُخرى ، وَلَم تَقلَع شَجَرَةً وَتَدَع أُخرى إلى جَنبِها ، وَلَم تُصِب أرضاً وَتَنصَرِف عَن أُخرى ، فَلَمّا تَفَكَّرَ القَلبُ في أمرِ الرّيحِ عَلِمَ أنَّ لَها مُحَرِّكاً هُوَ الّذي يَسوقُها حَيثُ يَشاءُ ، وَيُسكِنُها إذا شاءَ ، وَيُصيبُ بِها مَن يَشاءُ ، وَيَصرِفُها عَمَّن يَشاءُ ، فَلَمّا نَظَرَ القَلبُ إلى ذلِكَ وَجَدَها مُتَّصِلَةً بِالسَّماءِ وَما فيها مِنَ الآياتِ ، فَعَرَفَ أنَّ المُدَبِّرَ القادِرَ عَلى أن يُمسِكَ الأرضَ وَالسَّماءَ هُوَ خالِقُ الرّيحِ وَمُحَرِّكُها إذا شاءَ ، وَمُمسِكُها كَيفَ شاءَ ، وَمُسَلِطُها عَلى مَن يَشاءُ .
وَكَذلِكَ دَلَّتِ العَينُ وَالأُذُنُ القَلبَ عَلى هذهِ الزّلزِلَةَ ، وَعَرَفَ ذلِكَ بِغَيرِهِما مِن حواسِّهِ ، حينَ حَرَكَتِهِ فَلَمَّا دَلَّ الحَواسَّ عَلى تَحريكِ هذا الخَلقِ العَظيمِ مِنَ الأرضِ في غِلَظِها وَثِقلِها ، وَطولِها وَعَرضِها ، وَما عَلَيها مِن ثِقلِ الجِبالِ وَالمِياهِ وَالأنامِ وَغيرِ ذلِكَ ، وإنَّما تَتَحَرَّكُ في ناحِيَةٍ وَلَم تَتَحَرَّك في ناحِيَةٍ أُخرى ، وَهِي مُلتَحِمَةٌ جَسَداً واحِداً ، وَخَلقاً مُتَّصِلاً بِلا فَصلٍ وَلا وَصلٍ ، تَهدِمُ ناحِيَةً وتَخسِفُ بِها وَتَسلَمُ أُخرى ، فَعِندَها عَرَفَ القَلبُ أنَّ مُحَرِّكَ ما حَرَّكَ مِنها هُوَ مُمسِكُ ما أمسَكَ مِنها ، وَهُو مُحَرّكُ الرّيحِ وَمُمسِكُها ، وَهُوَ مُدبِّرُ السَّماءِ وَالأرضِ وَما بَينَهُما ، وَأنَّ الأرضَ لَو كانَت هِيَ المُزَلزِلَةُ لِنَفسِها لَما تَزَلزَلَت وَلَما تَحَرَّكَت ، وَلكِنَّهُ الّذي دَبَّرَها وَخَلَقَها حَرَّكَ مِنها ما شاءَ .
ثُمَّ نَظَرَتِ العَينُ إلى العَظيمِ مِنَ الآياتِ مِنَ السَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأرضِ بِمَنزِلَةِ الدُّخانِ لا جَسَدَ لَهُ يُلمَسُ بِشَيءٍ مِنَ الأرضِ وَالجِبالِ ، يَتَخَلَّلُ الشَّجَرَةَ فَلا يُحَرِّكُ مِنها شَيئاً ، وَلا يَهصُرُ مِنها غُصناً ، ولا يَعلَقُ مِنها بِشَيءٍ يَعتَرِضُ الرُّكبانَ فَيَحولُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ مِن ظُلمَتِهِ وَكَثافَتِهِ ، وَيَحتَمِلُ مِن ثِقلِ الماءِ وَكَثرَتِهِ ما لا يَقدِرُ على صِفَتِهِ ، مَعَ ما فيهِ مِنَ الصَّواعِقِ الصَّادِعَةِ ، وَالبُروقِ اللاّمِعَةِ ، وَالرَّعدِ وَالثَّلجِ وَالبَردِ وَالجَليدِ ما لا تَبلُغُ الأوهامُ صِفَتَهُ وَلا تَهتدي القُلوبُ إلى كُنهِ عَجائِبِهِ ،


مكاتيب الأئمّة ج4
40

وَلا تَخلَقُ لاختِلافِ اللّيالي وَالأَيّامِ ، وَلا تَتَداعى مِنها ناحِيَةٌ ، ولا يَنهارُ مِنها طَرَفٌ ، مَعَ ما عَايَنَت مِنَ النُّجومِ الجارِيَةِ السَّبعَةِ المُختَلِفَةِ بِمَسيرِها لِدَوَرانِ الفُلكِ ، وَتَنَقُّلِها في البُروجِ يَوماً بَعدَ يَومٍ ، وَشَهراً بَعدَ شَهرٍ وَسَنَةً بَعدَ سَنَةٍ ، مِنها السَّريعُ ، وَمِنها البَطيءُ، ، وَمِنها المُعتَدِلُ السَيرِ ، ثُمَّ رُجوعُها واستِقامَتُها ، وَأخذُها عَرضاً وَطولاً، وَخُنوسُها عِندَ الشَّمسِ وَهِيَ مُشرِقَةٌ ، وَظُهورُها إذا غَرُبَت، وَجَريُ الشَّمسِ وَالقَمَرِ في البُروجِ دائِبَينِ لا يَتَغَيَّرانِ في أزمِنَتِهِما وَأوقاتِهِما ، يَعرِفُ ذلِكَ مَن يَعرِفُ بِحسابٍ مَوضوعٍ ، وَأمرٍ مَعلومٍ ، بِحِكمَةٍ يَعرِفُ ذَووا الألبابِ أنَّها لَيسَت مِن حِكمَةِ الإنسِ ، وَلا تَفتيشِ الأوهامِ ، وَلا تَقليبِ التَّفَكُّرِ ، فَعَرَفَ القَلبُ حينَ دَلَّتهُ العَينُ عَلى ما عايَنَت أنّ لِذلِكَ الخَلقِ وَالتَّدبيرِ وَالأمرِ العَجيبِ صانِعاً يُمسِكُ السَّماءَ المُنطَبِقَةَ أن تَهوى إلى الأرضِ وَأنَّ الّذي جَعَلَ الشَّمسَ وَالنُّجومَ فيها خالِقُ السَّماءِ ، ثُمَّ نَظَرَتِ العَينُ إلى ما استَقَلَّها مِنَ الأرضِ فَدَلَّتِ القَلبَ عَلى ما عايَنَت ، فَعَرَفَ القَلبُ بِعَقلِهِ أنَّ مُمسِكَ الأرضِ المُمتَدَّةُ أن تَزولَ أو تَهوي في الهَواءِ - وَهُوَ يَرى الرّيشَةَ يُرمى بِها فَتَسقُطُ مَكانَها ، وَهِيَ في الخِفَّةِ عَلى ما هِيَ عَلَيهِ - هُوَ الّذي يُمسِكُ السَّماءَ الّتي فَوقَها ، وَأنـَّه لَولا ذلِكَ لَخُسِفَت بِما عَلَيها مِن ثِقلِها وَثِقلِ الجِبالِ وَالأنامِ وَالأشجارِ وَالبُحورِ والرِّمالِ ، فَعَرَفَ القَلبُ بِدِلالَةِ العَينِ أنَّ مُدَبِّرَ الأرضِ هُوَ مُدَبِّرُ السَّماءِ .
ثُمَّ سَمِعَتِ الأُذنُ صَوتَ الرِّياحِ الشَّديدَةِ العاصِفَةِ وَاللّيّنة الطّيّبة، وَعايَنَتِ العَينُ ما يُقلَعُ مِن عِظامِ الشَّجَرِ ، وَيُهدَمُ مِن وَثيقِ البُنيانِ ، وَتُسفَى مِن ثِقالِ الرِّمالِ ، تُخَلّي مِنها ناحِيَةً وَتَصُبُّها في أُخرى ، بلا سائِقٍ تُبصِرُهُ العَينُ ، وَلا تَسمَعُهُ الأُذُنُ ، وَلا يُدرَكُ بِشَيءٍ مِنَ الحَواسِّ ، وَلَيسَت مُجَسَّدَةً تُلمَسُ وَلا مَحدودَةً تُعايَنُ ، فَلَم تَزِدِ العَينُ والأُذُنُ وَسائِرُ الحَواسِّ عَلى أن دَلَّتِ القَلبَ أنَّ لَها صانِعاً ، وَذلِكَ أنَّ القَلبَ يُفَكِّرُ بِالعَقلِ الّذي فيهِ ، فَيَعرِفُ أنَّ الرّيحَ لَم تَتَحَرَّكَ مِن تِلقائِها وَأنَّها لَو كانَت هِيَ

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج4
    المساعدون :
    الفرجی، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 114377
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي