المُتَحَرِّكَةُ لَم تَكفُف عَنِ التَّحَرُّكِ ، وَلَم تَهدِم طائِفَةً وَتُعَفّي أُخرى ، وَلَم تَقلَع شَجَرَةً وَتَدَع أُخرى إلى جَنبِها ، وَلَم تُصِب أرضاً وَتَنصَرِف عَن أُخرى ، فَلَمّا تَفَكَّرَ القَلبُ في أمرِ الرّيحِ عَلِمَ أنَّ لَها مُحَرِّكاً هُوَ الّذي يَسوقُها حَيثُ يَشاءُ ، وَيُسكِنُها إذا شاءَ ، وَيُصيبُ بِها مَن يَشاءُ ، وَيَصرِفُها عَمَّن يَشاءُ ، فَلَمّا نَظَرَ القَلبُ إلى ذلِكَ وَجَدَها مُتَّصِلَةً بِالسَّماءِ وَما فيها مِنَ الآياتِ ، فَعَرَفَ أنَّ المُدَبِّرَ القادِرَ عَلى أن يُمسِكَ الأرضَ وَالسَّماءَ هُوَ خالِقُ الرّيحِ وَمُحَرِّكُها إذا شاءَ ، وَمُمسِكُها كَيفَ شاءَ ، وَمُسَلِطُها عَلى مَن يَشاءُ .
وَكَذلِكَ دَلَّتِ العَينُ وَالأُذُنُ القَلبَ عَلى هذهِ الزّلزِلَةَ ، وَعَرَفَ ذلِكَ بِغَيرِهِما مِن حواسِّهِ ، حينَ حَرَكَتِهِ فَلَمَّا دَلَّ الحَواسَّ عَلى تَحريكِ هذا الخَلقِ العَظيمِ مِنَ الأرضِ في غِلَظِها وَثِقلِها ، وَطولِها وَعَرضِها ، وَما عَلَيها مِن ثِقلِ الجِبالِ وَالمِياهِ وَالأنامِ وَغيرِ ذلِكَ ، وإنَّما تَتَحَرَّكُ في ناحِيَةٍ وَلَم تَتَحَرَّك في ناحِيَةٍ أُخرى ، وَهِي مُلتَحِمَةٌ جَسَداً واحِداً ، وَخَلقاً مُتَّصِلاً بِلا فَصلٍ وَلا وَصلٍ ، تَهدِمُ ناحِيَةً وتَخسِفُ بِها وَتَسلَمُ أُخرى ، فَعِندَها عَرَفَ القَلبُ أنَّ مُحَرِّكَ ما حَرَّكَ مِنها هُوَ مُمسِكُ ما أمسَكَ مِنها ، وَهُو مُحَرّكُ الرّيحِ وَمُمسِكُها ، وَهُوَ مُدبِّرُ السَّماءِ وَالأرضِ وَما بَينَهُما ، وَأنَّ الأرضَ لَو كانَت هِيَ المُزَلزِلَةُ لِنَفسِها لَما تَزَلزَلَت وَلَما تَحَرَّكَت ، وَلكِنَّهُ الّذي دَبَّرَها وَخَلَقَها حَرَّكَ مِنها ما شاءَ .
ثُمَّ نَظَرَتِ العَينُ إلى العَظيمِ مِنَ الآياتِ مِنَ السَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأرضِ بِمَنزِلَةِ الدُّخانِ لا جَسَدَ لَهُ يُلمَسُ بِشَيءٍ مِنَ الأرضِ وَالجِبالِ ، يَتَخَلَّلُ الشَّجَرَةَ فَلا يُحَرِّكُ مِنها شَيئاً ، وَلا يَهصُرُ مِنها غُصناً ، ولا يَعلَقُ مِنها بِشَيءٍ يَعتَرِضُ الرُّكبانَ فَيَحولُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ مِن ظُلمَتِهِ وَكَثافَتِهِ ، وَيَحتَمِلُ مِن ثِقلِ الماءِ وَكَثرَتِهِ ما لا يَقدِرُ على صِفَتِهِ ، مَعَ ما فيهِ مِنَ الصَّواعِقِ الصَّادِعَةِ ، وَالبُروقِ اللاّمِعَةِ ، وَالرَّعدِ وَالثَّلجِ وَالبَردِ وَالجَليدِ ما لا تَبلُغُ الأوهامُ صِفَتَهُ وَلا تَهتدي القُلوبُ إلى كُنهِ عَجائِبِهِ ،