57
مكاتيب الأئمّة ج4

ذلِكَ الحَكيمَ تَتَّبعَ هذهِ البُلدانَ حَتّى عَرَفَ كُلَّ لُغَةٍ وَطافَ كُلَّ وَجهٍ ، وَتَتَّبعَ هذهِ العَقاقيرَ مَشرِقاً وَمَغرِباً آمِناً صَحيحاً لا يَخافُ وَلا يَمرُضُ ، سَليماً لا يَعطبُ ، حَيّاً لا يَموتُ ، هادِياً لا يَضِلّ ، قاصِداً لا يَجورُ حافِظاً لا يَنسى ، نَشيطاً لا يَمِلُّ ، حَتّى عَرَفَ وَقتَ أزمِنَتِها ، ومواضِعَ مَنابِتِها مَعَ اختِلاطِها واختِلافِ صفاتِها وَتَبايُنِ ألوانِها وَتَفَرُّقِ أسمائِها ، ثُمَّ وَضَعَ مِثالَها عَلى شِبهِها وَصِفَتِها ، ثُمَّ وَصَفَ كُلَّ شَجَرَةٍ بِنَباتِها وَوَرَقِها وَثَمَرِها وَريحِها وَطَعمِها ؟ أم هَل كانَ لِهذا الحَكيمِ بُدٌّ مِن أن يَتَّبِعَ جَميعَ أشجارِ الدُّنيا وَبُقولِها وَعُروقِها شَجَرَةً شَجَرَةً ، وَوَرَقةً وَرَقَةً ، شَيئاً شَيئاً ؟ فَهَبهُ وَقَعَ عَلى الشَّجَرَةِ الّتي أرادَ فَكَيفَ دَلّتهُ حَواسُّهُ على أنَّها تَصلُح لِدَواءٍ ، وَالشَّجَرُ مُختَلِفٌ ، مِنهُ الحُلوُ وَالحامِضُ وَالمُرُّ وَالمالِحُ ؟
وإن قُلتَ : يَستَوصِفُ في هذهِ البُلدانِ وَيَعمَلُ بِالسُّولِ ، فَأنّى يَسألُ عَمّا لَم يُعايِن وَلَم يُدرِكهُ بِحَواسِّهِ ؟ أم كَيفَ يَهتدي إلى مَن يَسألُهُ عَن تِلكَ الشَّجَرَةِ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ بِغَيرِ لِسانِهِ وَبِغَيرِ لُغَتِهِ وَالأشياءُ كَثيرَةٌ ؟ فَهَبهُ فَعَلَ كَيفَ عَرَفَ مَنافِعَها وَمَضارَّها ، وَتَسكينَها وتَهييجَها ، وَبارِدَها وَحارَّها ، وَحُلوَها وَمَرارَتَها وَحَرَافَتَها ، وَلَيِّنها وَشديدَها ؟
فَلَئِن قُلتَ بالظّنِ : إنَّ ذلِكَ مِمّا لا يُدرَكُ ولا يُعرَفُ بِالطّبائِعِ وَالحَواسِّ.
وَلَئِن قُلتَ : بالتّجربة والشّرب ، لَقَد كانَ يَنبغي لَهُ أن يَموتَ في أوّلِ ما شَرِبَ وَجَرَّبَ تِلكَ الأدوِيَةِ بِجَهالَتِهِ بِها وَقِلَّةِ مَعرِفَتِهِ بِمَنافِعِها وَمَضارِّها ، وَأكثَرُها السمُّ القاتِلُ .
وَلَئِن قُلتَ : بَل طافَ في كُلِّ بَلَدٍ ، وَأقامَ في كُلِّ أُمَّةٍ يَتَعلَّمُ لُغاتِهِم ، وَيُجَرّبُ بِهِم أدوِيَتَهُم تَقتُلُ الأوّلَ فَالأوّلَ مِنهُم ، ما كانَ لِتَبلُغَ مَعرِفَتُهُ الدّواءَ الواحِدَ إلاّ بَعدَ قَتلِ قَومٍ كَثيرٍ ، فَما كانَ أهلُ تِلكَ البُلدانِ الّذينَ قُتِلَ مِنهُم مَن قُتِلَ بِتَجرِبَتِهِ بِالّذينَ يَنقادونه بالقَتلِ وَلا يَدَعونَهُ أن يُجاوِرَهُم ، وَهَبهُ تَرَكوهُ وَسَلَّموا لِأمرِهِ وَلَم يَنهَوهُ ،


مكاتيب الأئمّة ج4
56

وَالمَغرِبِ ، هَل كان بُدٌّ من أن يَكونَ الّذي وَضَعَ ذلِكَ وَدَلَّ على هذهِ العَقاقيرِ رَجُلٌ حَكيمٌ مِن بَعضِ أهلِ هذهِ البُلدانِ؟
قالَ : لابُدَّ أن يَكونَ كذلِكَ ، وَأن يَكونَ رَجُلاً حَكيماً وَضَعَ ذلِكَ ، وَجَمَعَ عَليهِ الحُكماءَ فَنَظروا في ذلِكَ وَفَكَّروا فيهِ بِعُقُولِهِم .
قُلتُ : كأنّكَ تُريدُ الإنصافَ من نَفسِكَ وَالوَفاءَ بِما أعطيتَ مِن مِيثاقِكَ فَأعلِمني كَيفَ عَرَفَ الحَكيمُ ذلِكَ؟ وَهَبهُ قَد عَرَف بِما في بِلادِهِ مِنَ الدَّواءِ ، وَالزَّعفَرانِ الّذي بِأرضِ فارسٍ ، أتُراهُ اتَّبعَ جَميعَ نباتِ الأرضِ فَذاقَهُ شَجَرَةً شَجَرَةً حَتّى ظَهَرَ عَلى جَميعِ ذلِكَ ؟ وَهَل يَدُلُّكَ عَقلُكَ على أنَّ رِجالاً حُكماءَ قَدَروا على أن يَتَّبِعوا جَميعَ بِلادَ فارسٍ وَنباتَها شَجَرَةً شَجَرَةً حَتّى عَرَفوا ذلِكَ بِحَواسِّهِم ، وَظَهَروا على تِلكَ الشَّجَرَةِ الّتي يَكونُ فيها خَلطُ بَعضِ هذهِ الأدوِيَةِ الّتي لَم تُدرِك حَواسُّهُم شَيئاً مِنها ؟ وَهَبهُ أصابَ تِلكَ الشَّجَرَةَ بَعدَ بَحثِهِ عَنها وَتَتَبُّعِهِ جَميعُ شَجَرِ فارِسٍ وَنَباتِها ، كَيفَ عَرَفَ أنَّهُ لا يَكونُ دَواءٌ حَتّى يَضُمَّ إلَيهِ الإهليلجَ مِنَ الهِندِ ، وَالمَصطَكي مِنَ الرُّومِ ، وَالمِسكَ مِنَ التِبَّتِ ، وَالدّارصينيَّ مِنَ الصّينِ ، وخصي بيدستر مِنَ التُّركِ ، وَالأَفيونَ مِنَ مِصرَ ، وَالصَّبِرَ مِنَ اليَمنِ ، وَالبُورقَ مِن أرمِنِيَّةَ ، وَغَيرَ ذلِكَ مِن أخلاطِ الأدوِيَةِ الّتي تَكونُ في أطرافِ الأرضِ وَكَيفَ عَرَفَ أنَّ بَعضَ تلِكَ الأدوِيَةِ وَهِي عَقاقيرُ مُختَلِفَةٌ يَكونُ المَنفَعَةُ باجتمِاعِها وَلا يَكونُ مَنفَعَتُها فِي الحالاتِ بِغَيرِ اجتِماعٍ؟ أم كَيفَ اهتَدى لِمَنابِتِ هذهِ الأدوِيَةِ وَهِيَ ألوانٌ مُختَلِفَةٌ وَعَقاقيرُ مُتبائِنَةٌ في بُلدانٍ مُتَفرِّقَةٍ فَمِنها عُروقٌ ، ومِنها لِحاءٌ ومِنها وَرَقٌ ، وَمِنها ثَمَرٌ ، وَمِنها عَصيرٌ ، وَمِنها مائِعٌ ، وَمِنها صَمِغٌ ، ومِنها دُهنٌ ، وَمِنها ما يُعصَرُ وَيُطبَخُ ، وَمِنها ما يُعصَرُ وَلا يُطبَخُ ، مِمّا سُمّيَ بِلُغاتٍ شَتّى لا يَصلُحُ بَعضُها إلاّ بِبَعضٍ وَلا يَصيرُ دَواءاً إلاّ بِاجتِماعِها ، وَمِنها مَرائِرُ السِّباعِ وَالدَّوابِّ البَريَّةِ وَالبَحرِيَّةِ ، وَأهلُ هذهِ البُلدانِ مَعَ ذلِكَ مُتعادونَ مُختَلِفونَ مُتَفرِّقونَ بِاللُّغَاتِ ، مُتَغالِبونَ بِالمُناصَبَةِ ، وَمُتَحارِبونَ بِالقَتلِ والسَّبي ، أفَتَرى

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج4
    المساعدون :
    الفرجی، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 113809
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي