69
مكاتيب الأئمّة ج4

حَياةً لِبَني آدَمَ ، وَمَعاشاً يَقومُ بِهِ أجسادُهُم ، وَتَعيشُ بِها أنعامُهُم الّتي جَعَلَ اللّهُ في أصوافِها وَأوبارِها وَأشعارِها أثاثاً وَمَتاعاً إلى حينٍ ، وَالانتِفاعَ بِها وَالبَلاغَ على ظُهورِها مَعاشاً لَهُم لا يَحيَونَ إلاّ بِهِ ، وَصَلاحاً لا يَقومونَ إلاّ عَلَيهِ ، وَكذلِكَ ما جَهِلتَ مِنَ الأشياءِ فلا تَجهَلُ أنّ جَميعَ ما فِي الأرضِ شَيئان : شَيءٌ يُولَدُ ، وَشَيءٌ يَنبُتُ ، أحَدُهُما آكِلٌ ، وَالآخَرُ مَأكولٌ ، وَمِمّا يَدُلُّكَ عَقلُكَ أنَّهُ خالِقُهُم ، ما تَرى مِن خَلقِ الإنسانِ وَتَهيِئَةِ جَسَدِهِ لِشَهوَةِ الطّعامِ، وَالمَعِدَةِ لِتَطحَنَ المأكولَ ، ومَجارِيَ العُروقِ لِصَفوَةِ الطَّعامِ ، وَهَيّأ لَها الأمعاءَ ، وَلَو كانَ خالِقُ المَأكولِ غَيرَهُ لَما خَلَقَ الأجسادَ مُشتَهِيَةً لِلمأكولِ ، وَلَيسَ لَهُ قُدرَةٌ عَلَيهِ .
قال: لَقَد وَصَفتَ صِفَةً أعلَمُ أنّها مِن مُدَبِّرٍ حَكيمٍ لَطيفٍ قَديرٍ عَليمٍ ، قَد آمَنتُ وَصَدَّقتُ أنَّ الخالِقَ واحِدٌ سُبحانَهُ وَبِحَمدِهِ ، غَيرَ أنّي أشُكُّ في هذهِ السّمائِمِ القاتِلَةِ أن يكونَ هُوَ الّذي خَلَقَها ؛ لِأنّها ضارَّةٌ غَيرَ نافِعَةٍ !
قُلتُ : أليسَ قَد صارَ عِندَكَ أنَّها مِن غَيرِ خَلقِ اللّهِ؟
قال: نعم ؛ لأنَّ الخَلقَ عَبيدُهُ وَلَم يَكُن لِيَخلُقَ ما يَضُرُّهُم .
قُلتُ : سَاُبصِّرُكَ مِن هذا شيئاً تَعرِفُهُ وَلا اُنبِئُكَ إلاّ مِن قِبَلِ إهليلجَتِكَ هذهِ وَعِلمِكَ بالطِّبِّ.
قالَ : هاتِ.
قلتُ : هَل تَعرِفُ شيئاً مِن النَّبتِ لَيسَ فيهِ مَضَرَّةٌ لِلخَلقِ ؟
قال : نَعَم.
قُلتُ : ما هُوَ؟
قالَ : هذهِ الأطعِمَةُ .
قلتُ : ألَيسَ هذا الطّعامُ الّذي وَصَفتَ يُغَيِّرُ ألوانَهُم ، وَيُهيجُ أوجاعَهُم حَتّى يَكونَ


مكاتيب الأئمّة ج4
68

وَوجودِ مُعَلِّمِها الّذي عَلّمَها عِبادَهُ ، مِمّا لا يُدرَكُ عِلمُها بِالعُقولِ فَضلاً عَنِ الحَواسِّ ، ولا يَقَعُ عَلَيها الأوهامُ وَلا يَبلُغُها العُقولُ إلاّ بِهِ ؛ لأنّهُ العَزيزُ الجَبّارُ الّذي دَبَّرَها ، وجَعَلَ فيها سِراجاً وَقَمَراً مُنيراً ، يَسبَحان في فَلَكٍ يَدورُ بِهِما دَائِبَينِ ، يُطلِعُهما تارَةً وَيُولُهُما اُخرى، فَبَنى عَلَيهِ الأيّامَ وَالشُّهورَ وَالسّنينَ الّتي هِيَ مِن سَبَبِ الشّتاءِ وَالصَّيفِ وَالرَّبيعِ وَالخَريفِ ، أزمِنَةٌ مُختَلِفَةُ الأعمالِ ، أصلُها اختِلافُ اللَّيلِ وَالنَّهارِ اللَّذينِ لَو كانَ واحِدٌ مِنهُما سَرَمَداً عَلى العِبادِ لَما قامَت لَهُم مَعايِشُ أبَداً ، فجَعَلَ مُدَبِّرُ هذهِ الأشياءِ وخالِقُها النّهارَ مُبصِراً وَاللَّيلَ سَكَناً ، وَأهبَطَ فيهِما الحَرَّ وَالبَردَ مُتبائِنَينِ ، لَو دامَ واحِدٌ مِنهُما بِغَيرِ صاحِبِهِ ما نَبَتَت شَجَرَةٌ وَلا طَلَعَت ثَمَرَةٌ ، وَلَهَلَكَت الخَليقَةُ لِأنَّ ذلِكَ مُتَّصِلٌ بِالرّيحِ المُصرَّفَةِ فِي الجِهاتِ الأربَعِ ، باردَةٌ تُبَرِّدُ أنفاسَهُم ، وَحارَّةٌ تُلقِحُ أجسادَهُم وَتَدفَعُ الأذى عَن أبدانِهِم وَمَعايِشِهِم، وَرُطوبَةٌ تُرَطِّبُ طَبائِعَهُم ، وَيُبوسَةٌ تُنَشِّفُ رُطوباتِهِم ، وَبِها يَأتَلِفُ المُفتَرِقُ وَبِها يَتفَرّقُ الغَمامُ المُطبِقُ ، حَتّى يَنبَسِطَ في السَّماءِ كَيفَ يَشاءُ مُدَبِّرُهُ فَيَجعَلُهُ كِسَفاً ، فَتَرى الوَدقَ يَخرُجُ مِن خِلالِهِ بِقَدَرٍ مَعلومٍ لِمَعاشٍ مَفهومٍ ، وأرزاقٍ مَقسومَةٍ وَآجالٍ مَكتوبَةٍ ، وَلَوِ احتَبَسَ عَن أزمِنَتِهِ وَوَقتِهِ هَلَكَتِ الخَليقَةُ وَيَبَسَتِ الحَديقَةُ ، فَأنزَلَ اللّهُ المَطرَ في أيّامِهِ وَوَقتِهِ إلى الأرضِ الّتي خَلَقها لِبَني آدَمَ ، وَجَعَلَها فَرشاً وَمِهاداً ، وَحَبَسها أن تَزولَ بِهِم ، وَجَعَل الجِبالَ لَها أوتاداً، وَجَعَلَ فيها يَنابيعَ تَجري فِي الأرضِ بِما تُنبِتُ فيها ، لا تَقومُ الحَديقَةُ وَالخَليقَةُ إلاّ بِها ، وَلا يَصلُحونَ إلاّ عَلَيها مَعَ البِحارِ الّتي يَركَبونَها ، وَيَستَخرِجونَ مِنها حِليَةً يَلبسونَها وَلَحماً طَرِيّاً وَغَيرَهُ يَأكلونَهُ ، فَعَلِمَ أنّ إلهَ البَرِّ وَالبَحرِ وَالسَّماءِ وَالأرضِ وَما بَينَهُما واحِدٌ ، حَيٌّ قَيّومٌ مُدَبّرٌ حَكيمٌ ، وَأنَّهُ لَو كانَ غَيرُهُ لاختَلَفَتِ الأشياءُ .
وَكذلِكَ السَّماءُ نَظيرُ الأرضِ الّتي أخرَجَ اللّهُ مِنها حَبّاً وَعِنَباً وَقَضباً ، وَزيتوناً ونَخلاً ، وَحَدائِقَ غُلباً ، وفاكِهَةً وأبّاً ، بِتَدبيرٍ مُوفٍ مُبَيَّنٍ ، بِتَصويرِ الزَّهرَةِ والثَّمَرَةِ

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج4
    المساعدون :
    الفرجی، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 113306
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي