93
مكاتيب الأئمّة ج4

رسالته إلى أصحاب الرّأي والقياس :أمّا بَعدُ فَإنَّهُ مَن دَعا غَيرَهُ إلى دِينِهِ بِالارتِياءِ وَالمَقائيسِ ، لَم يُنصِف وَلَم يُصِب حَظَّهُ ؛ لِأَنَّ المَدعُوَّ إلى ذلِكَ لا يَخلو أيضاً مِنَ الآرتِياءِ وَالمَقائيسِ ، وَمَتى ما لَم يَكُن بِالدَّاعي قُوَّةٌ في دُعائِهِ عَلى المَدعُوِّ لَم يُون عَلى الدّاعي أن يَحتاجَ إلى المَدعُوِّ بَعدَ قَليلٍ ، لِأنّا قَد رَأينا المُتَعَلِّمَ الطّالِبَ رُبَّما كانَ فائِقاً لِمُعَلِّمٍ وَلَو بَعدَ حينٍ ، وَرَأينا المُعَلِّمَ الدّاعِيَ رُبَّما احتاجَ في رأيِهِ إلى رَأي مَن يَدعو وَفي ذلِكَ تَحَيَّرَ الجاهِلونَ ، وَشَكَّ المُرتابونَ ، وَظَنَّ الظّانونَ ، وَلَو كانَ ذلِكَ عِندَ اللّهِ جائِزاً لَم يَبعَثِ اللّهُ الرُّسُلَ بِما فيهِ الفَصلُ ، وَلَم يَنهَ عَنِ الهَزلِ ، وَلَم يُعِبِ الجَهلَ ، وَلَكِنَّ النّاسَ لَمّا سَفِهوا الحَقَّ وَغَمَطوا النِّعمَةَ ، وَاستَغنَوا بِجَهلِهِم وَتَدابيرِهِم عَن عِلمِ اللّهِ ، وَاكتَفَوا بِذلِكَ دونَ رُسُلِهِ وَالقُوّامِ بأمِرِهِ ، وَقالوا : لا شَيءَ إلاّ ما أدرَكَتهُ عُقولُنا وَعَرَفَتهُ ألبابُنا ، فَوَلاّهُمُ اللّه ما تَوَلَّوا ، وَأهمَلَهُم وَخَذَلَهُم حَتّى صاروا عَبَدَةَ أنفُسِهِم مِن حَيثُ لا يَعملونَ .
ولو كانَ اللّهُ رَضِيَ مِنهُم اجتِهادَهُم وَارتِياءَهُم فيما ادَّعَوا مِن ذلِكَ ، لَم يَبعَثِ اللّهُ إلَيهِم فاصِلاً لِما بَينَهُم ، وَلا زاجِراً عَن وَصفِهِم ، وإنّما استَدلَلنا أنَّ رِضا اللّهِ غَيرُ ذلِكَ ، بِبَعثِهِ الرُّسُلَ بِالأُمورِ القَيِّمَةِ الصَّحيحَةِ ، وَالتَّحذيرِ عَنِ الأُمورِ المُشكِلَةِ المُفسِدَةِ ، ثُمَّ جَعَلَهُم أبوابَهُ وَصِراطَهُ ، وَالأدِلاّءَ عَلَيهِ بِأمورٍ مَحجوبَةٍ عَنِ الرّأيِ وَالقِياسِ ، فَمَن طَلَبَ ما عِندَ اللّهِ بِقِياسٍ وَرَأيٍ لَم يَزدَد مِنَ اللّهِ إلاّ بُعداً، وَلَم يَبعَث رَسولاً قَطُّ وَإن طالَ عُمرُهُ قابِلاً مِنَ النّاسِ خِلافَ ما جاءَ بِهِ حَتّى يَكونَ مَتبوعاً مَرَّةً وَتابِعاً أُخرى ، وَلَم يُرَ أيضاً فيما جاءَ بِهِ استعمَلَ رَأياً وَلا مِقياساً حَتّى يَكونَ ذلِكَ وَاضِحاً عِندَهُ كالوَحي مِنَ اللّهِ ، وَفي ذلِكَ دَليلٌ لِكُلِّ ذي لُبٍّ وَحِجىً ، أنَّ أصحابَ الرَّأي وَالقِياسِ مُخطِئونَ مُدحَضونَ .
وَإنّما الاختلافُ فيما دونَ الرُّسُلِ لا في الرُّسُلِ فَإيّاكَ أيُّها المُستَمِعُ أن تَجمَعَ عَلَيكَ خِصلَتَينِ : إحداهُما القَذفُ بِما جاشَ بِهِ صَدرُكَ ، وَاتِّباعُكَ لِنَفسِكَ إلى


مكاتيب الأئمّة ج4
92

فَأمّا غَيرُهُم فَما أشَدَّ إشكالَهُ عَلَيهِم! وَأبعَدَهُ مِن مَذاهِبِ قلوبهم ! وَلِذلِكَ قالَ رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : إنَّهُ لَيسَ شَيءٌ بأبِعَدَ مِن قُلوبِ الرِّجالِ مِن تَفسيرِ القُرآنِ، وَفي ذلِكَ تَحَيَّرَ الخَلائِقُ أجمَعونَ إلاّ مَن شاءَ اللّهُ .
وَإنّما أرادَ اللّهُ بِتَعمِيَتِهِ في ذلِكَ أن يَنتَهوا إلى بابِهِ وَصِراطِهِ ، وَأن يَعبُدوهُ وَيَنتَهوا في قَولِهِ إلى طاعَةِ القُوَّامِ بِكِتابِهِ وَالنّاطِقينَ عَن أمرِهِ وَأن يَستَنبِطوا ۱ ما احتاجوا إلَيهِ مِن ذلِكَ عَنهُم ، لا عَن أنفُسُهِم ، ثُمَّ قالَ : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ»۲ .
فأمّا عَن غَيرِهِم ، فَلَيسَ يُعلَمُ ذلِكَ أبَداً وَلا يُوجَدُ ، وَقَد عَلِمتَ أنَّهُ لا يَستَقيمُ أن يَكونَ الخَلقُ كُلُّهُم وُلاةَ الأمرِ ، إذا لا يَجدِونَ مَن يَأتَمِرونَ عَلَيهِ ، وَلا مَن يُبَلِّغونَهُ أمرَ اللّهِ وَنَهيَهُ ، فَجَعَلَ اللّهُ الولاة خَواصا لِيَقتَدِيَ بِهِم مَن لَم يَخصُصهُم بِذلِكَ ، فَافهَم ذلِكَ إن شاءَ اللّهُ.
وَإيّاكَ وَإيّاكَ وَتِلاوَةَ القُرآنِ بِرَأيِكَ ،فَإنَّ النّاسَ غَيرُ مُشتَرِكينَ في علمِهِ كاشتِراكِهِم فيما سِواهُ مِنَ الاُمورِ ، وَلا قادِرينَ عَلَيهِ ، ولا على تَأويلِهِ ، إلاّ مِن حَدِّهِ وَبابِهِ الّذي جَعَلَهُ اللّهُ لَهُ فافهَم إن شاءَ اللّهُ ، وَاطلُبِ الأمرَ مِن مَكانِهِ تَجِدهُ إن شاءَ اللّهُ . ۳

19

رسالته عليه السلام إلى أصحاب الرّأي والقياس

في المقائيس والرّأي

0.أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ ، عن أبيه، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في

1.وفي هامش المصدر : «يستنطقوا».

2.النساء: ۸۳.

3.المحاسن : ج۱ ص۴۱۷ ح۹۶۰، بحار الأنوار : ج ۹۲ ص۱۰۰ ح۷۲ نقلاً عنه .

  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج4
    المساعدون :
    الفرجی، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 94230
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي