الإنسان عليه من إدراك الحقّ والباطل في النظريّات ، والخير والشرّ والمنافع والمضارّ فيالعمليّات حيث خلقه اللَّه سبحانه خِلقة يدرك نفسه في أوّل وجوده ، ثمّ جهّزه بحواسّ ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء ، وباُخرى باطنة يدرك معاني روحيّة بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف ونحو ذلك ، ثمّ يتصرّف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم ، فيقضي فيها في النظريّات والاُمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاءً نظريّاً ، وفي العمليّات والاُمور المربوطة بالعمل قضاءً عمليّاً ، كلّ ذلك جرياً علَى المجرى الذي تشخّصه له فطرته الأصليّة ، وهذا هو العقل.
لكن ربّما تسلّط بعض القوى علَى الإنسان بغَلَبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعّفه ، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الإفراط والتفريط ، فلم يعمل هذا العامل العقليّ فيه على سلامته ، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرّفة ، فإنّه يَحيد في قضائه عن الحقّ وإن قضى غيرَ قاصد للباطل ، فهو قاض وليس بقاض ، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي ، وإنّه وإن سمّي عمله ذلك عقلاً بنحو من المسامحة ، لكنّه ليس بعقل حقيقةً لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسَنَن الصواب .
وعلى هذا جرى كلامه تعالى ، فإنّه يعرف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل ، وإذا لم يَجرِ على هذا المجرى فلا يسمّى عقلاً ، وإن عمل في الخير والشرّ الدنيويّ فقط ، قال تعالى : (وَقالوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ ما كُنّا في أصْحابِ السَّعيرِ)۱ وقال تعالى : (أفَلَمْ يَسيروا في الأرْضِ فَتَكونَ لَهُمْ قُلوبٌ يَعْقِلونَ بِها أو آذانٌ يَسْمَعونَ بِها فإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولكِنْ تَعمَى القُلوبُ الَّتي في الصُّدورِ)۲ ، فالآيات كما ترى