119
ميزان الحکمه المجلد السادس

الإنسان عليه من إدراك الحقّ والباطل في النظريّات ، والخير والشرّ والمنافع والمضارّ في‏العمليّات حيث خلقه اللَّه سبحانه خِلقة يدرك نفسه في أوّل وجوده ، ثمّ جهّزه بحواسّ ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء ، وباُخرى‏ باطنة يدرك معاني روحيّة بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف ونحو ذلك ، ثمّ يتصرّف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم ، فيقضي فيها في النظريّات والاُمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاءً نظريّاً ، وفي العمليّات والاُمور المربوطة بالعمل قضاءً عمليّاً ، كلّ ذلك جرياً علَى المجرى الذي تشخّصه له فطرته الأصليّة ، وهذا هو العقل.
لكن ربّما تسلّط بعض القوى‏ علَى الإنسان بغَلَبته على‏ سائر القوى‏ كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعّفه ، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى‏ أودية الإفراط والتفريط ، فلم يعمل هذا العامل العقليّ فيه على‏ سلامته ، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرّفة ، فإنّه يَحيد في قضائه عن الحقّ وإن قضى‏ غيرَ قاصد للباطل ، فهو قاض وليس بقاض ، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي ، وإنّه وإن سمّي عمله ذلك عقلاً بنحو من المسامحة ، لكنّه ليس بعقل حقيقةً لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسَنَن الصواب .
وعلى‏ هذا جرى كلامه تعالى‏ ، فإنّه يعرف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه ويركب به هداه إلى‏ حقائق المعارف وصالح العمل ، وإذا لم يَجرِ على‏ هذا المجرى‏ فلا يسمّى عقلاً ، وإن عمل في الخير والشرّ الدنيويّ فقط ، قال تعالى‏ : (وَقالوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ ما كُنّا في أصْحابِ السَّعيرِ)۱ وقال تعالى‏ : (أفَلَمْ يَسيروا في الأرْضِ فَتَكونَ لَهُمْ قُلوبٌ يَعْقِلونَ بِها أو آذانٌ يَسْمَعونَ بِها فإنَّها لا تَعْمى‏ الأبْصارُ ولكِنْ تَعمَى القُلوبُ الَّتي في الصُّدورِ)۲ ، فالآيات كما ترى‏

1.الملك : ۱۰ .

2.الحجّ : ۴۶ .


ميزان الحکمه المجلد السادس
118

منه البصيرة ، والإفتاء ، والقول ، غير أنّ استعمال القول كأنّه استعمال استعاريّ من قبيل وضع اللازم موضعَ الملزوم ؛ لأنّ القول في شي‏ءٍ يستلزم الاعتقادَ بمايدلّ عليه .
والزعم : هو التصديق من حيث إنّه صورة في الذهن ، سواء كان تصديقاً راجحاً أو جازماً قاطعاً .
والعلم كما مرّ : هو الإدراك المانع من النقيض .
والحفظ : ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرّق إليه التغيّر والزوال .
والحكمة : هي الصورة العلميّة من حيث إحكامها وإتقانها .
والخبرة : هو ظهور الصورة العلميّة بحيث لا يخفى‏ على العالم ترتّب أيّ نتيجة على مقدّماتها .
والشهادة : هو نيل نفس الشي‏ء وعينه إمّا بحسّ ظاهر كما في المحسوسات ، أو باطن كما في الوجدانيّات نحو العلم والإرادة والحبّ والبغض وما يضاهي ذلك .
والألفاظ السابقة - على‏ ماعرفت من معانيها - لا تخلو عن ملابسة المادّة والحركة والتغيّر ، ولذلك لا تُستعمل في مورده تعالى‏ غير الخمسة الأخيرة منها ؛ أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة ، فلا يقال فيه تعالى‏ : إنّه يظنّ أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك .
وأمّا الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى‏ ، قال سبحانه : (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَليمٌ)۱ ، وقال تعالى‏ : (وَرَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفيظٌ)۲ ، وقال تعالى‏ : (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلونَ خَبيرٌ)۳ ، وقال تعالى‏ : (هُوَ العَليمُ الحَكيمُ)۴ ، وقال تعالى‏ : (إنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَي‏ءٍ شَهيدٌ) .۵
ولنرجع إلى‏ ما كنّا فيه فنقول : لفظ العقل على‏ ما عرفت يطلق علَى الإدراك من حيث إنّ فيه عقد القلب بالتصديق على‏ ما جَبَلَ اللَّه سبحانه

1.النساء : ۱۷۶ .

2.سبأ : ۲۱ .

3.البقرة : ۲۳۴ .

4.يوسف : ۸۳ .

5.فصّلت : ۵۳ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد السادس
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1391
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 227247
الصفحه من 537
طباعه  ارسل الي