221
ميزان الحکمه المجلد السادس

ولم يهمل سبحانه أمر تعليم النفوس المستعدّة لإدراك الحقائق ، فأشار في آيات من كلامه إلى‏ أنّ وراء هذه المعارف الدينيّة التي تشتمل عليها ظواهر الكتاب والسنّة أمراً هو أعظم ، وسرّاً هو أنفَس وأبهى‏ ، فقال تعالى‏ : (وَما هذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوانُ)۱فعَدّ الحياة الدنيا لعباً لا بِنيَةَ له إلّا الخيال ، ولا شأن له إلّا أن يشغل الإنسان عمّا يهمّه ، وهي الدار الآخرة وسعادة الإنسان الدائمة التي لها حقيقة الحياة . والمراد بالحياة الدنيا إن كان هو عين مانسمّيه حياة - دون ما يلحق بها من الشؤون الحيويّة من مال وجاه وملك وعزّة وكرامة ونحوها - فكونها لعباً ولهواً مع ما نراها من الحقائق يستلزم كون الشؤون الحيويّة لعباً ولهواً بطريق أولى‏ ، وإن كان المراد الحياة الدنيويّة بجميع لواحقها فالأمر أوضح .
فهذه السُّنن الاجتماعيّة والمقاصد التي يطلب بها من عزّ وجاه ومال وغيرها ، ثمّ الذي يشتمل عليه التعليم الدينيّ ، من موادّ ومقاصد هدانا اللَّه سبحانه إليها بالفطرة ثمّ بالرسالة ، مَثَلها كمَثَل اللعب الذي يضعه الوليّ المربّي العاقل للطفل الصغير الذي لا يميز صلاحه من فساده وخيره من شرّه ثمّ يجاريه فيه ليروّض بدنه ويروّح ذهنه ويهيّئه لنظام العمل وابتغاء الفوز به ، فالذي يقع من العمل اللعبيّ هو من الصبيّ لعب جميل يهديه إلى‏ حدّ العمل ، ومن الولي حكمة وعمل جدّيّ ليس من اللعب في شي‏ء .
وقال تعالى‏ : (وَما خَلَقْنا السَّماواتِ وَالأرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبينَ * ما خَلَقْناهُما إلّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمونَ)۲ والآية قريبة المضمون من الآية السابقة .
ثمّ شرح تعالى‏ كيفيّة تأدية هذه التربية الصوريّة إلى‏ مقاصدها المعنويّة

1.العنكبوت : ۶۴ .

2.الدخان : ۳۸ ، ۳۹ .


ميزان الحکمه المجلد السادس
220

ومن هنا يظهر أنّ الرابطة بين العمل والجزاء رابطة جَعليّة وضعيّة من المجتمع أو من وليّ الأمر ، دعاهم إلى‏ هذا الجعل حاجتُهم الشديدة إلى العمل ليستفيدوا منه ويرفعوا به الحاجة ويسدّوا به الخلّة ، ولذلك تراهم إذا استغنَوا وارتفعت حاجتهم إلى العمل ساهلوا فِي الوفاء على‏ ما تعهّدوا به من ثواب وعقاب .
ولذلك أيضاً ترى الجزاء يختلف كثرةً وقلةً والأجر يتفاوت شدّةً وضعفاً باختلاف الحاجة إلى العمل ، فكلّما زادت الحاجة زاد الأجر وكلّما نقصت نقص ، فالآمر والمأمور والمكلِّف والمكلَّف بمنزلة البائع والمشتري ؛ كلّ منهما يعطي شيئاً ويأخذ شيئاً ، والأجر والثواب بمنزلة الثمن ، والعقاب بمنزلة الدرك على‏ من أتلف شيئاً فضمن قيمته واستقرّت في ذمّته.
وبالجملة : فهو أمر وضعيّ اعتباريّ نظير سائر العناوين والأحكام والموازين الاجتماعيّة التي يدور عليها رَحى الاجتماع الإنسانيّ كالرئاسة والمرؤوسيّة والأمر والنهي والطاعة والمعصية والوجوب والحرمة والملك والمال والبيع والشراء وغير ذلك ، وإنّما الحقائق هي الموجودات الخارجيّة والحوادث المكتنفة بها - التي لا تختلف حالها بغنى وفقر وعزّ وذلّ ومدح وذمّ - كالأرض وما يخرج منها والموت والحياة والصحّة والمرض والجوع والشبع والظمأ والريّ.
فهذا ما عند العقلاء من أهل الاجتماع ، واللَّه سبحانه جارانا في كلامه مُجاراةَ بعضنا بعضاً ، فقَلبَ سعادتنا التي يهدينا إليها بدينه في قالب السنن الاجتماعيّة ، فأمرَ ونهى‏ ، ورغّب وحذّر ، وبشّر وأنذر ، ووعد بالثواب وأوعد بالعقاب ، فصرنا نتلقّى الدِّين على أسهل الوجوه التي نتلقّى بها السُّننَ والقوانين الاجتماعيّة ، قال تعالى‏ : (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُم وَرَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ أبَداً) .۱

1.النور : ۲۱ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد السادس
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1391
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 201929
الصفحه من 537
طباعه  ارسل الي