407
ميزان الحکمه المجلد الخامس

وأمّا ما فيه سعادة الجسم وشقاء الروح فهو شقاء للإنسان وعذاب له ، والقرآن يسمّي سعادة الجسم فقط متاعاً قليلاً لا ينبغي أن يعبأ به ، قال تعالى‏ : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذينَ كَفَرُوا في البِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وبِئسَ الْمِهادُ) .۱
وكذا ما فيه شقاء الجسم والروح معاً يعدّه القرآن عذاباً كما يعدّونه عذاباً ، لكن وجه النظر مختلف ؛ فإنّه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح، وعذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم ، وذلك كأنواع العذاب النازلة على الاُمم السالفة ، قال تعالى‏ : (أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي البِلادِ * وَثَمودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالوَادِ * وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيها الفَسادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) .۲
والسعادةُ والشقاوةُ لذوي الشعور يتقوّمان بالشعور والإدراك ؛ فإنّا لا نعدّ الأمر اللذيذ الذي نِلناه ولم نحسّ به سعادةً لأنفسنا ، كما لا نعدّ الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء ، ومن هنا يظهر أنّ هذا التعليم القرآنيّ الذي يسلك في السعادة والشقاوة غير مسلك المادّة ، والإنسان المولع بالمادّة لابدّ من أن يستتبع نوع تربية يرى‏ بها الإنسانُ السعادة الحقيقيّة التي يشخّصها القرآن سعادةً والشقاوة الحقيقيّة شقاوة ، وهو كذلك ، فإنّه يلقن على‏ أهله أن لا يتعلّق قلوبهم بغير اللَّه ، ويروا أنّ ربّهم هو المالك الذي يملك كلّ شي‏ء ، فلا يستقلّ شي‏ء إلّا به ، ولا يقصد شي‏ء إلّا له .
وهذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلّا السعادة : بين ما كان فيه سعادة روحه وجسمه ، وما كان فيه سعادة روحه محضاً ، وأمّا ما دون ذلك فإنّه يراه عذاباً ونَكالا ، وأمّا الإنسان المتعلّق بهوى النفس ومادّة الدنيا فإنّه وإن كان ربّما يرى‏ ما اقتناه

1.آل عمران : ۱۹۶ و ۱۹۷ .

2.الفجر : ۶ - ۱۴ .


ميزان الحکمه المجلد الخامس
406

سعادة وشقاوة ، وكذا للحيوان منهما شي‏ء وللإنسان منهما شي‏ء وهكذا ، وهذا ثانياً .
والإنسان الماديّ الدنيويّ الذي لم يتخلّق بأخلاق اللَّه تعالى‏ ولم يتأدّب بأدبه يرى السعادةَ الماديّة هي السعادة ، ولا يعبأ بسعادة الرُّوح وهي السعادة المعنويّة ، فيتولّع في اقتناء المال والبنين والجاه وبَسطِ السلطة والقدرة . وهو وإن كان يريد مِن قبل نفس هذا الذي ناله لكنّه ما كان يريد إلّا الخالص من التنعّم واللذّة على ما صوّرهُ له خياله ، وإذا ناله رأى الواحد من اللذّة محفوفاً بالاُلوف من الألم . فما دام لم يَنَل ما يريده كان اُمنية وحسرة ، وإذا ناله وجده غير ما كان يريده ؛ لِما يرى فيه من النواقص ويجد معه من الآلام وخذلان الأسباب التي رَكَن إليها ، ولم يتعلّق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب والسلوة عن كلّ فائتة ، فكان أيضاً حسرة ، فلا يزال فيما وجده متألّماً به معرضاً عنه طالباً لما هو خير منه لعلّه يَشفي غليل صدره ، وفيما لم يجده متقلّباً بين الآلام والحسرات ، فهذا حاله فيما وجده ، وذاك حاله فيما فقده .
وأمّا القرآن فإنّه يرى أنّ الإنسان أمر مؤلّف من روح خالدةٍ وبدن ماديّ متحوّل متغيّر ، وهو على‏ هذا الحال حتّى‏ يرجع إلى‏ ربّه فيتمّ له الخلود من غير زوال ، فما كان فيه سعادة الروح محضاً كالعلم ونحو ذلك فهو من سعادته ، وما كان فيه سعادة جسمه وروحه معاً كالمال والبنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر اللَّه وموجبة للإخلاد إلى الأرض فهو أيضاً من سعادته ونِعمَت السعادة . وكذا ما كان فيه شقاء الجسم ونقص لما يتعلّق بالبدن وسعادة الروح الخالدةٍ كالقتل في سبيل‏اللَّه وذَهاب المال واليسار للَّه تعالى‏ فهو أيضاً من سعادته ؛ بمنزلة التحمّل لِمُرّ الدواء ساعةً لحيازة الصحّة دهراً.

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الخامس
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1389
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 223380
الصفحه من 562
طباعه  ارسل الي