445
ميزان الحکمه المجلد الخامس

وهذا موقف علميّ يهدي الإنسان إلى‏ تكاليف ووظائف بالنسبة إلى‏ ربّه وبالنسبة إلى‏ أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وهي التي نسمّيها بالدِّين ؛ فإنّ السنّة التي يلتزمها الإنسان في حياته ولا يخلو عنها حتّى‏ البدويُّ والهمجيُّ إنّما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنّه يقدّر لنفسه نوعاً من الحياة أيّ نوع كان ، ثمّ يعمل بما استحسنه من السنّة لإسعاد تلك الحياة ، وهذا من الوضوح بمكان .
فالحياة التي يقدّرها الإنسان لنفسه تمثّل له الحوائج المناسبة لها ، فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادةً رفعَ تلك الحوائج ، فيطبّق الإنسانُ عمله عليها وهو السُّنّة أو الدِّين .
فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ النظر في الآيات الأنفُسيّة والآفاقيّة ومعرفة اللَّه سبحانه بها يهدي الإنسانَ إلى التمسّك بالدِّين الحقّ والشريعة الإلهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياةَ الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك ، وتعلّقها بالتوحيد والمعاد والنبوّة .
وهذه هداية إلى الإيمان والتقوى‏ يشترك فيها الطريقان معاً ؛ أعني طريقَي النظرِ إلى‏ الآفاق والأنفس ، فهما نافعان جميعاً غير أنّ النظر إلى‏ آيات النفس أنفع ؛ فإنّه لا يخلو من العثور على‏ ذات النفس وقواها وأدواتها الروحيّة والبدنيّة ، وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة ، والأحوال الحسنة أوالسيّئة التي تقارنها .
واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الاُمور والإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفكّ من أن يعرّفه الداءَ والدواءَ من موقف قريب ، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها والالتزام بصحيحها ، بخلاف النظر في الآيات الآفاقيّة ؛ فإنّه وإن دعا إلى‏ إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها وتحليتها بالفضائل


ميزان الحکمه المجلد الخامس
444

استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلميّة باللَّه سبحانه . ورُدّ أوّلاً : بقوله صلى اللَّه عليه وآله في رواية اُخرى : «أعرَفُكُم بنَفسِهِ أعرَفُكُم بِربِّهِ»، وثانياً : بأن الحديث في معنى‏ عكس النقيض لقوله تعالى‏ : (ولا تَكونوا كَالّذينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنساهُم أنفُسَهُم) .۱
وفيه عنه عليه السلام : قال : الكَيِّسُ مَن عَرَفَ نَفسَهُ وأخلَصَ أعمالَهُ .
أقول : تقدم في البيان السابق معنَى ارتباط الإخلاص وتفرّعه على الاشتغال بمعرفة النفس .
وفيه عنه عليه السلام قال : المَعرِفَةُ بِالنَّفسِ أنفَعُ المَعرِفَتَينِ .
الظاهر أنّ المراد بالمعرفتَين المعرفة بالآيات الأنفُسيّة والمعرفة بالآيات الآفاقيّة ، قال تعالى‏ : (سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الآفاقِ وَفي أَنفُسِهِمْ حَتّى‏ يَتَبَيَّنَ لَهُم أ نَّهُ الحَقُّ أوَلَم يَكْفِ بِرَبِّكَ أ نَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ)۲ وقال تعالى‏ : (وفي الأَرضِ آياتٌ لِلمُوقِنينَ * وفي أنفُسِكُم أفلا تُبصِرونَ) .۳
وكونُ السَّير الأنفُسيّ أنفع من السير الآفاقيّ لعلّه لِكون المعرفة النَّفسانيّة لا تنفكّ عادةً من إصلاح أوصافها وأعمالها، بخلاف المعرفة الآفاقيّة؛ وذلك أنّ كون معرفة الآيات نافعة إنّما هو لأنّ معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى‏ معرفة اللَّه سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ككونه تعالى‏ حيّاً لا يَعرضه موت ، وقادراً لا يَشوبه عجز ، وعالماً لا يخالطه جهل ، وأ نّه تعالى‏ هو الخالق لكلّ شي‏ء ، والمالك لكلّ شي‏ء ، والربّ القائم على‏ كلّ نفس بما كسبت ، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم ، بل لينعم عليهم بما استحقّوه ، ثمّ يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ؛ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏ .
وهذه وأمثالها معارف حقّة إذا تناولها الإنسان وأتقنها مثّلت له حقيقة حياته ، وأ نّها حياة مؤبَّدة ذات سعادة دائمة أو شِقوة لازمة ، وليست بتلك المتهوّسة المنقطعة اللاهية اللاغية ،

1.الحشر : ۱۹ .

2.فصّلت : ۵۳ .

3.الذاريات : ۲۰ و ۲۱ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الخامس
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1389
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 223966
الصفحه من 562
طباعه  ارسل الي