447
ميزان الحکمه المجلد الخامس

وهذه المعرفة الأحرى‏ بها أن تُسمّى‏ «معرفة اللَّه باللَّه» ، وأمّا المعرفة الفكريّة التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقيّة سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنّما هي معرفة بصورة ذهنيّة عن صورة ذهنيّة ، وجلّ الإله أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه ، ولا يحيطون به علماً .
وقد روي في «الإرشاد» و«الاحتجاج» على‏ ما في بحارالأنوار عن الشِّعبيّ عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له : إنَّ اللَّهَ أجلُّ مِن أن يَحتَجِبَ عن شَي‏ءٍ أو يَحتَجِبَ عَنهُ شَي‏ءٌ .۱ وفي «التوحيد» عن موسى بن جَعفَرٍ عليه السلام في كَلامٍ لَهُ : لَيسَ بَينَهُ وبَينَ خَلقِهِ حِجابٌ غَيرَ خَلقِهِ ، احتَجَبَ بِغَيرِ حِجابٍ مَحجوبٍ ، واستَتَرَ بِغَيرِ سِترٍ مَستورٍ ، لا إلهَ إلّا هُوَ الكَبيرُ المُتَعالِ . وفي «التوحيد» مسنداً عن عبدِ الأعلى‏ عن الصادق عليه السلام في حديث: ومَن زَعَمَ أ نَّهُ يَعرِفُ اللَّهَ بِحِجابٍ أو بِصورةٍ أو بِمِثالٍ فهُوَ مُشرِكٌ ؛ لأنَّ الحِجابَ والصورَةَ والمِثالَ غَيرُهُ ، وإنَّما هُوَ واحِدٌ مُوَحَّدٌ ، فكَيفَ يُوَحِّدُ مَن زَعَمَ أ نَّهُ يُوَحِّدُهُ بِغَيرِهِ ؟! إنَّما عَرَفَ اللَّهَ مَن عرَفَهُ باللَّهِ ، فمَن لم يَعرِفْهُ بهِ فليسَ يَعرِفُهُ ، إنّما يَعرِفُ غَيرَهُ ... الحديث . والأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في معنى‏ ما قدّمناه كثيرة جدّاً لعلّ اللَّه يوفّقنا لإيرادها وشرحها فيما سيأتي إن شاء اللَّه العزيز من تفسير سورة الأعراف.
فقد تحصّل أنّ النظر في آيات الأنفُس أنفَس وأغلى‏ قيمة وأ نّه هو المُنتج لحقيقة المعرفة فحسب ، وعلى‏ هذا فعَدُّه عليه السلام إيّاها أنفعَ المعرفتَينِ لا معرفة متعيّنة إنّما هو لأنّ العامّة من الناس قاصرون عن نيلها . وقد أطبق الكتاب والسنّة وجرت السيرة الطاهرة النبويّة وسيرة أهل بيته الطاهرين على‏ قبول من آمن باللَّه عن نظر آفاقيّ وهو النظر الشائع بين المؤمنين ، فالطريقان نافعان جميعاً ، لكنّ النفع في طريق النفس أتمّ وأغزر .

1.الاحتجاج : ۱/۳۱۳/۱۲۵ .


ميزان الحکمه المجلد الخامس
446

الروحيّة ، لكنّه ينادي لذلك من مكان بعيد ، وهو ظاهر .
وللرواية معنى‏ آخر أدقّ مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقيّة في علم النفس ، وهو أنّ النظر في الآيات الآفاقيّة والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكريّ وعلم حصوليّ ، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلّية منها ، فإنّه نظر شُهوديّ وعلم حضوريّ ، والتصديق الفكريّ يحتاج في تحقّقه إلى‏ نظم الأقيِسَة واستعمال البرهان ، وهو باقٍ ما دام الإنسان متوجّهاً إلى‏ مقدّماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها ، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على‏ دليله وتكثُر فيه الشُّبهات ويثور فيه الاختلاف .
وهذا بخلاف العلم النفسانيّ بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنّه من العِيان ، فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى‏ آيات نفسه ، وشاهدَ فَقرها إلى‏ ربّها ، وحاجتَها في جميع أطوار وجودها ، وجد أمراً عجيباً ؛ وجد نفسه متعلّقة بالعَظَمة والكبرياء ، متّصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبّها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاءً وسناءً وجمالاً وجلالاً وكمالاً من الوجود والحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من كلّ كمال .
وشاهدُ ما تقدّم بيانه أنّ النفس الإنسانيّة لا شأن لها إلّا في نفسها ، ولا مَخرجَ لها من نفسها ، ولا شُغل لها إلّا السَّير الاضطراريّ في مسير نفسها ، وأ نّها منقطعة عن كلّ شي‏ء كانت تظنّ أ نّها مجتمعة معه مختلطة به إلّا ربّها المحيط بباطنها وظاهرها وكلّ شي‏ء دونها ، فوجدت أ نّها دائماً في خلاء مع ربّها وإن كانت في ملأ من الناس ، وعند ذلك تنصرف عن كلّ شي‏ء وتتوجّه إلى‏ ربّها ، وتنسى كلّ شي‏ء وتذكر ربّها ، فلا يحجبه عنها حجاب ولا تستتر عنه بستر ، وهو حقّ المعرفة الذي قُدّر لإنسان .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الخامس
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1389
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 223623
الصفحه من 562
طباعه  ارسل الي