133
ميزان الحکمه المجلد السابع

وقال بعضهم : لأن أجمع عندي‏أربعين ألف دينار حتَّى‏ أموت عنها أحبُّ إليَّ من فقر يوم وذلٍّ في سؤال الناس ، وواللَّه ما أدري ماذا يقع منّي لو ابتُليت ببليَّة من فقر أو مرض ، فلعلِّي أكفر ولا أشعر ، فلذلك قال : «كادَ الفَقرُ أن يَكونَ كُفراً» لأ نّه يحمل المرء على‏ كلِّ صعب وذَلول ، وربّما يؤدِّيه إلَى الاعتراض على‏ اللَّه والتصرُّف في ملكه . والفقر نعمة من اللَّه داعٍ إلى الإنابة والالتجاء إليه والطلب منه ، وهو حلية الأنبياء وزينة الأولياء وزيُّ الصلحاء ، ومن ثمَّ ورد خبرٌ : «إذا رَأيتَ الفَقرَ مُقبِلاً فقل : مَرحَباً بشِعارِ الصالِحينَ» ، فهو نعمة جليلة ، بَيد أ نّه مُولم شديد التحمُّل .
قال الغزاليُّ : هذا الحديث ثناء علَى المال ، ولا تقف على‏ وجه الجمع بين المدح والذمِّ إلّا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وفوائده وغوائله ؛ حتّى‏ ينكشف لك أ نّه خيرٌ من وجه شرٌّ من وجه ، وليس بخيرٍ محض ولا بشرٍّ محض ، بل هو سبب للأمرين معاً : يُمدح مرّة ويُذمُّ مرّة ، والبصير المميِّز يدرك أنَّ الممدوح منه غير المذموم .
وقال بعض أصحابنا في الدعاء : نعوذُ بكَ من الفَقر والقِلَّة ، قيل : الفقر المستعاذ منه إنّما هو فقر النَّفس الذي يُفضي بصاحبه إلى‏ كفران نعم اللَّه ونسيان ذكره ، ويدعوه إلى‏ سدِّ الخلَّة بما يتدنَّس به عِرضه ويثلم به دينُه ، والقلَّة تُحمَل على‏ قلَّة الصبر أو قلَّة العدد . وفي الخبر أ نّه صلى اللَّه عليه وآله تعوَّذ من الفقر ، وقال : «الفقرُ فَخرِي وبهِ أفتَخِرُ على‏ سائرِ الأنبياءِ» . وقد جُمع بين القولين بأنَّ الفقر الذي تعوَّذ منه صلى اللَّه عليه وآله الفقر إلَى الناس والذي دون الكفاف ، والذي افتخر به الفقرُ إلَى اللَّه تعالى‏ ، وإنّما كان هذا فخراً له على‏ سائر الأنبياء مع مشاركتهم له فيه ؛ لأنَّ توحيده واتِّصاله بالحضرة الإلهيّة وانقطاعه إليه كان في الدرجة التي لم يكن لأحد مثلها في العلوِّ ، ففقرُه إليه كان أتمَّ وأكمل من فقر سائر الأنبياء .


ميزان الحکمه المجلد السابع
132

اُحْصِروا في سَبيلِ اللَّهِ - إلى‏ قوله - يَحسَبُهُم الجاهِلُ أغنياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ)1(إنّما الصَّدَقاتُ لِلفُقَراءِ والمَساكِينِ)2 .
الثالث : فقر النفس ، وهو الشَّرَه المَعنيُّ بقوله صلى اللَّه عليه وآله : «كادَ الفَقرُ أن يكونَ كُفراً» ، وهو المقابِلُ بقوله: «الغِنَى غِنَى النفسِ» ، والمَعنيُّ بقولهم: «مَن عَدِمَ القَناعةَ لم يُفِدْهُ المالُ غِنىً» .
الرابع : الفقر إلَى اللَّه المشار إليه بقوله صلى اللَّه عليه وآله : «اللّهُمّ أغنِني بالافتِقارِ إليكَ ، ولا تُفقِرْني بالاستِغناءِ عنكَ» ، وإيّاه عُنى بقوله تعالى‏ : (رَبِّ إنّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيرٍ فَقيرٌ)3 وبهذا ألمَّ الشاعر فقال :

ويُعجِبني فَقري إليكَ ولم يكن‏لِيُعجِبني لولا مَحبَّتُكَ الفَقرُ
ويقال : افتقر فهو مفتقر وفقير ، ولايكاد يقال : فَقَرَ، وإن كان القياس يقتضيه ، وأصل الفقير هو المكسور الفِقار، انتهى .4
وهذا أحسن ما قيل في هذا المقام ، ومنهم من حمل سواد الوجه على المدح ؛ أي إنّه كالخال الذي على‏ وجه المحبوب فإنّه يَزينه ولا يَشينه . وقيل : المراد بالوجه ذات الممكن ، ومن الفقر احتياجه في وجوده وسائر كمالاته إلَى الغير ، وكون ذلك الاحتياج سواد وجهه عبارة عن لزومه لذاته بحيث لاينفكُّ كما لاينفكُّ السواد عن محلِّه ، ولايخفى‏ بُعدهما ، والأظهر حمله مع صحَّته علَى الفقر المذموم كما مرَّ .
وقال‏الغزاليُّ في‏شرح هذا الخبر: إذ الفقر مع‏الاضطرار إلى‏ ما لابدَّ منه قارَب أن يوقع في الكفر ؛ لأ نّه يحمل على‏ حسد الأغنياء والحسد يأكل الحسنات ، وعلَى التذلُّل لهم بما يدنِّس به عِرضه وينثلم به دينُه ، وعلى‏ عدم الرِّضا بالقضاء وتسخُّط الرزق، وذلك إن لم يكن كفراً فهو جارٌّ إليه ، ولذلك استعاذ المصطفى من الفقر .

1.البقرة : ۲۷۳ .

2.التوبة : ۶۰ .

3.القصص : ۲۴ .

4.مفردات ألفاظ القرآن : ۶۴۱ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد السابع
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1389
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 237888
الصفحه من 640
طباعه  ارسل الي