135
ميزان الحکمه المجلد السابع

إلى‏ أن قال : وإن أخذت بالأكثر فالفقير عن الخطر أبعد ، لأنَّ فتنة الغنى‏ أشدُّ من فتنة الفقر .
وقال بعضهم : كلام الناس في أصل المسألة يختلف ، فمنهم من فضَّل الفقر ، ومنهم من فضَّل الغنى‏ ، ومنهم من فضَّل الكفاف ، وكلُّ ذلك خارج عن محلِّ الخلاف أيُّ الحالين أفضل عند اللَّه للعبد حتّى‏ يتكسَّب ذلك ويتخلَّق به ، هل التقلُّل من المال أفضل ليتفرَّغ قلبه عن الشواغل ، وينال لذَّة المناجاة ولاينهمك في الاكتساب ليستريح من طول الحساب ؟ أو التشاغل باكتساب المال أفضل ليستكثر من القرب من البرِّ والصِّلة لما في ذلك من النفع المتعدِّي .
قال: وإذا كان‏الأمر كذلك فالأفضل‏ما اختاره النبيُّ صلى اللَّه عليه وآله وجمهور أصحابه من التقلُّل في الدنيا والبعد عن زهرتها ، ويبقَى النظر فيمن حصل له شي‏ء من الدنيا بغير تكسُّب منه كالميراث وسهم الغنيمة هل الأفضل أن يبادر إلى‏ إخراجه في وجوه البرِّ حتّى‏ لا يبقى‏ منه شي‏ء أو يتشاغل بتثميره ليستكثر من نفعه المتعدِّي.
قال : وهو على القسمين الأوَّلين .
وقال ابن حجر : مقتضى ذلك أن يبذل إلى‏ أن يبقى‏ في حالة الكفاف ، ولايضرُّ ما يتجدَّد من ذلك إذا سلك هذه الطريقة . ودعوَى أنَّ جمهور الصحابة كانوا علَى التقلُّل والزهد ممنوعة ، فإنّ المشهور من أحوالهم أ نّهم كانوا على‏ قسمين بعد أن فتحت عليهم الفتوح ، فمنهم من أبقى‏ ما بيده مع التقرُّب إلى‏ ربِّه بالبرِّ والصلة والمواساة مع الاتِّصاف بغنَى النفس ، ومنهم من استمرَّ على‏ ما كان عليه قبل ذلك ، وكان لا يُبقي شيئاً ممّا فتح عليه ، وهم قليل ، والأخبار في ذلك متعارضة ، ومن المواضع التي وقع فيها التردُّد من لا شي‏ء له ، فالأولى في حقِّه أن يستكسب للصَّون عن ذلِّ السُّؤال ، أو يترك وينتظر ما يفتح عليه بغير مسألة . انتهى‏ .


ميزان الحکمه المجلد السابع
134

وقال الكرمانيُّ في شرح البخاريِّ في قوله صلى اللَّه عليه وآله : «أعوذُ بكَ مِن الفَقرِ» : استدلَّ به على‏ تفضيل الغِنى‏ ، وبقولِهِ تعالى‏ : (إنْ تَرَكَ خيراً)۱ أي مالاً ، وبأ نّه صلى اللَّه عليه وآله تُوفِّي على‏ أكمل حالاته ، وهو مُوسِر بما أفاء اللَّه عليه وبأنَّ الغني‏ وصف للحقِّ ، وحديث : «أكثَرُ أهلِ الجَنَّةِ الفُقَراءُ» ، إخبار عن الواقع ، كما يقال : أكثر أهل الدنيا الفقراء ، وأمّا تركه الطيّبات ، فلأنّه لم يرض أن يستعجل من الطيّبات .
وأجاب الآخرون بأ نّه إيماء إلى‏ أنَّ علّة الدخول الفقر ، وتركه الطيّبات يدلُّ على‏ فضل الفقر ، واستعاذته من الفقر مُعارَض باستعاذته من الغنى‏ ، ولانزاع في كون المال خيراً بل في الأفضل، وكان عند وفاته صلى اللَّه عليه وآله درعه مرهوناً، وغنى اللَّه تعالى‏ بمعنىً آخر . انتهى‏.
وذهب أكثرهم إلى‏ أنَّ الكفاف أفضل من الغنى‏ والفقر فإنّه سالم من آفاتهما ، وليس ببعيد .
وقال بعضهم : هذا كلُّه صحيح لكن لا يدفع أصل السؤال في أيّهما أفضل الغنى‏ أو الفقر ؟ لأنَّ النزاع إنّما ورد في حقِّ من اتَّصف بأحد الوصفَين أيُّهما في حقِّه أفضل . وقيل : إنَّ السؤال أيُّهما أفضل لايستقيم ؛ لاحتمال أن يكون لأحدهما من العمل الصالح ماليس للآخر ، فيكون أفضل ، وإنّما يقع السؤال عنهما إذا استوَيا بحيث يكون لكلٍّ منهما من العمل ما يقاوم به عمل الآخر، فتعلم أيُّهما أفضل عنداللَّه ، ولذا قيل : صورة الاختلاف في فقير ليس بحريص ، وغنيٍّ ليس بمُمسِك ؛ إذ لايخفى‏ أنَّ الفقير القانع أفضل من الغنيِّ البخيل ، وأنّ الغنيَّ المُنفِق أفضل من الفقير الحريص ، قالَ : وكلُّ ما يراد لغيره ولايراد لعينه ينبغي أن يضاف إلى‏ مقصوده فيه ليظهر فضله ، فالمال ليس محذوراً لعينه ، بل لكونه قد يعوق عن اللَّه ، وكذا العكس ، فكم من غنيٍّ لم يشغله غناه عن اللَّه ، وكم من فقير شغله فقره عن اللَّه .

1.البقرة : ۱۸۰ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد السابع
    تعداد جلد :
    10
    ناشر :
    دارالحدیث
    محل نشر :
    قم
    تاریخ انتشار :
    1389
    نوبت چاپ :
    اول
عدد المشاهدين : 237833
الصفحه من 640
طباعه  ارسل الي