165
ميزان الحکمه المجلد الثامن

ومن الضّروريّ أنّ النّبوّة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو النّاس إلَى العدل ، وتمنعهم عن الظّلم ، وتندبهم إلى‏ عبادة اللَّه والتّسليم له ، وتنهاهم عن اتّباع الفراعنة الطّاغين ، والنّماردة المستكبرين المتغلِّبين ، ولم تزل هذه الدّعوة بين الاُمم منذ قرون متراكمة جيلا بعد جيل واُمّة بعد اُمّة، وإن اختلفت بحسب السّعة والضّيق باختلاف الاُمم والأزمنة . ومن المحال أن يلبث مثل هذا العامل القويّ بين الاجتماعات الإنسانيّة قروناً متمادية وهو منعزل عن الأثر خالٍ عن الفعل .
وقد حكَى القرآن الكريم في ذلك شيئاً كثيراً من الوحي المُنزَل علَى الأنبياء عليهم السلام كما حكى‏ عن نوح فيما يشكوه لربّه : (رَبِّ إنّهُم عَصَوْني واتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إلّا خَساراً * ومَكَروا مَكْراً كُبّاراً * وقالوا لاتَذَرُنَّ آلهَتَكُم)۱ ، وكذا ما وقع بينه وبين عظماء قومه من الجدال على‏ ما يحكيه القرآن قال تعالى‏ : (قالوا أنُؤمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ * قالَ وَما عِلْمي بِما كانُوا يَعمَلُونَ * إنْ حِسابُهُم إلّا على‏ رَبِّي لَو تَشْعُرونَ)۲ ، وقول هود عليه السلام لقومه : (أتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وتَتَّخِذونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدونَ * وإذا بَطَشْتُم بَطَشْتُم جَبّارينَ)۳ ، وقول صالح عليه السلام لقومه : (فاتَّقوا اللَّهَ وأطيعونِ * ولا تُطيعوا أمْرَ المُسْرِفينَ * الّذينَ يُفْسِدونَ في الأرْضِ ولايُصْلِحونَ)۴...
وأمّا أنّ المُلك - بالضم - من ضروريّات المجتمع الإنسانيّ فيكفي في بيانه أتمَّ بيان قوله تعالى‏ بعد سرد قصّة طالوت : (ولَولا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأرضُ ولكِنَّ اللَّهَ ذو فَضْلٍ علَى العالَمينَ)۵ ، وقد مرّ بيان كيفيّة دلالة الآية بوجه عامّ .
وفي القرآن آيات كثيرة تتعرّض للملك والولاية وافتراض الطّاعة ونحو ذلك ، واُخرى‏ تعدّه نعمة وموهبة

1.نوح : ۲۱ - ۲۳ .

2.الشعراء : ۱۱۱ و ۱۱۳ .

3.الشعراء : ۱۲۸ و ۱۳۰ .

4.الشعراء : ۱۵۰ و ۱۵۲ .

5.البقرة : ۲۵۱ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
164

ثمّ أحسّت اجتماعات ببغي ملوكهم وسوء سيرهم ، ولا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك وتثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيّرة موروثة ، فبدّلوا الملك برئاسة الجمهور ، فانقلب الملك المؤبّد المشروط إلى‏ ملك مؤجّل مشروط ، وربّما وجد في الأقوام والاُمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى‏ وضعه الفرار عن المظالم الّتي شاهدوها ممّن بيده زمام أمرهم ، وربّما حدث في مستقبل الأيّام مالم ينتقل أفهامنا إليه إلى‏ هذا الآن.
لكنّ الذي يتحصّل من جميع هذه المساعي الّتي بذلتْها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر - أعني إلقاء زمام الاُمّة إلى‏ من يدبّر أمرها ، ويجمع شتات إراداتها المتضادّة وقواها المتنافية - أن لا غنى‏ للمجتمع الإنسانيّ عن هذا المقام وهو مقام الملك وإن تغيّرت أسماؤه ، وتبدّلت شرائطه بحسب اختلاف الاُمم ومرور الأيّام ؛ فإنّ طروق الهرج والمرج واختلال أمر الحياة الاجتماعيّة على‏ جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمّة الإرادات والمقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد .
وهذا هو الذي تقدّم في أوّل الكلام : أنّ الملك من‏الاعتبارات الضروريّة في الاجتماع الإنسانيّ.
وهو مثل سائر الموضوعات الاعتباريّة الّتي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها ورفع نواقصها وآثارها المضادّة لسعادة الإنسانيّة .
وللنّبوّة في هذا الإصلاح السّهم الأوفى‏ ؛ فإنّ من المسلّم في علم الاجتماع أنّ انتشار قولٍ ما من الأقوال بين العامّة - وخاصّة إذا كان ممّا يرتبط بالغريزة ، ويستحسنه القريحة ، ويطمئنّ إليه النفوس المتوقّعة - أقوى‏ سبب لتوحيد الميول المتفرّقة وجعل الجماعات المتشتّتة يداً واحداً تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شي‏ء .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 182791
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي