167
ميزان الحکمه المجلد الثامن

ونهاهم عن التّفرّق والشِّقاق فيه ، وجعله هو الأصل ، فقال تعالى‏ : (وأنَّ هذا صِراطي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبيلِهِ)۱ ، وقال تعالى‏ : (قُلْ يا أهلَ الكِتابِ تَعالَوا إلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُم أنْ لا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بهِ شَيئاً ولَا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أرْباباً مِن دُونِ اللَّهِ فإنْ تَولَّوا فَقُولوا اشْهَدوا بأنّا مُسلِمونَ)۲، فالقرآن - كما ترى‏ - لا يدعو النّاس إلّا إلَى التسليم للَّه وحده ، ويعتبر من المجتمع المجتمع الدِّينيّ ، ويدحض ما دون ذلك من عبادة الأنداد ، والخضوع لكلّ قصر مَشِيد ، ومنتدَى رفيع ، وملك قيصريّ وكسرويّ ، والتفرّق بإفراز الحدود وتفريق الأوطان وغير ذلك .۳
أقول : وقال رضوان اللَّه تعالى‏ عليه في استناد الملك وسائر الاُمور الاعتباريّة إلَى اللَّه سبحانه :

بحث فلسفيّ :

لا ريب أنّ الواجب تعالى‏ هو الّذي تنتهي إليه سِلسلة العِلّيّة في العالَم ، وأنّ الرابطة بينه وبين العالم جزءاً وكلّاً هي رابطة العِلّيّة ، وقد تبيّن في أبحاث العلّة والمعلول أنّ العلّيّة إنّما هي في الوجود ؛ بمعنى أنّ الوجود الحقيقيّ في المعلول هو المترشِّح من وجود علّته ، وأمّا غيره كالماهيّة فهو بمعزل عن الترشّح والصُّدور والافتقار إلَى العلّة؛ وينعكس بعكس النقيض إلى‏ أنّ ما لا وجود حقيقيّ له فليس بمعلول ولا مُنتَهٍ إلَى الواجب تعالى‏.
ويشكل الأمر في استناد الاُمور الاعتباريّة المحضة إليه تعالى‏ ؛ إذ لا وجود حقيقيّ لها أصلاً ، وإنّما وجودها وثبوتها ثبوت اعتباريّ لا يتعدّى‏ ظرف الاعتبار والوضع وحيطة الفرض ؛ وما يشتمل عليه الشّريعة من الأمر والنّهي والأحكام والأوضاع كلّها اُمورٌ اعتباريّة، فيشكل نسبتها إليه تعالى‏ ، وكذا أمثال الملك والعزّ والرزق وغير ذلك.

1.الأنعام : ۱۵۳ .

2.آل عمران : ۶۴ .

3.الميزان في تفسير القرآن : ۳/۱۴۴ و ۱۴۹ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
166

كقوله تعالى‏ : (وآتَيْناهُم مُلْكاً عَظيماً)۱، وقوله تعالى‏ : (وجَعَلَكُم مُلُوكاً وآتاكُم مالَم يُؤْتِ أحَداً مِنَ العالَمينَ)۲، وقوله تعالى‏ : (واللَّهُ يُؤتي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ)۳، إلى‏ غير ذلك من الآيات .
غير أنّ القرآن إنّما يعدّه كرامة إذا اجتمع مع التّقوى‏ ؛ لحصره الكرامة علَى التّقوى‏ من بين جميع ما ربّما يُتخيَّل فيه شي‏ء من الكرامة من مزايا الحياة ، قال تعالى‏ : (يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكُم مِن ذَكَرٍ واُنْثى‏ وجَعَلْناكُم شُعُوباً وقَبائلَ لِتَعارَفُوا إنّ أكْرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أتْقاكُم).۴ والتّقوى‏ حسابه علَى اللَّه ليس لأحد أن يستعلي به على‏ أحد ، فلا فخر لأحد على‏ أحد بشي‏ء ؛ لأنّه إن كان أمراً دنيويّاً فلا مزيّة لأمر دنيويّ ولا قدر إلّا للدِّين، وإن كان أمراً اُخرويّاً فأمره إلَى اللَّه سبحانه. وعلَى الجملة : لايبقى‏ للإنسان المتلبّس بهذه النّعمة - أعني الملك - في نظر رجل مسلم إلّا تحمّل الجهد ومشقّة التقلّد والأعباء . نعم ، له عند ربّه عظيم الأجر ومزيد الثّواب إن لازم صراط العدل والتّقوى‏ .
وهذا هو روح السّيرة الصّالحة الّتي لازمها أولياء الدّين ، وسنشبع إن شاء اللَّه العزيز هذا المعنى‏ في بحث مستقلّ في سيرة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله والطّاهرين من آله الثابتة بالآثار الصّحيحة ، وأنّهم لم ينالوا من ملكهم إلّا أن يثوروا على‏ الجبابرة في فسادهم في الأرض ، ويعارضوهم في طغيانهم واستكبارهم .
ولذلك لم يَدعُ القرآن النّاس إلَى الاجتماع على‏ تأسيس الملك وتشييد بنيان القيصريّة والكسرويّة ، وإنّما تلقَّى الملك شأناً من الشّؤون اللازمة المراعاة في المجتمع الإنسانيّ نظير التّعليم أو إعداد القوّة لإرهاب الكفّار .
بل إنّما دعا النّاس إلَى الاجتماع والاتّحاد والاتّفاق علَى الدّين ،

1.النساء : ۵۴ .

2.المائدة : ۲۰ .

3.البقرة : ۲۴۷ .

4.الحجرات : ۱۳ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 179650
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي