19
ميزان الحکمه المجلد الثامن

وهذا القول والكلمة الطيّبة هو الذي يُرتِّب تعالى‏ عليه تثبيته في الدُّنيا والآخرة أهلَه ، وهم الذين آمنوا . ثمّ يقابله بإضلال الظالمين ، ويقابله بوجهٍ آخر بشأن المشركين . وبهذا يظهر أنّ المراد بالممثّل هو كلمة التوحيد وشهادة أن لا إله إلّا اللَّهُ حقّ شهادته .
فالقول بالوحدانيّة والاستقامة عليه هو حقّ القول الذي له أصلٌ ثابتٌ محفوظٌ عن كلّ تغيّرٍ وزوالٍ وبطلانٍ، وهو اللَّه عزّ اسمه أو أرض الحقائق . وله فروعٌ نشأت ونمت من غير عائقٍ يعوقه عن ذلك من عقائد حقّةٍ فرعيّةٍ وأخلاقٍ زاكيةٍ وأعمالٍ صالحةٍ يحيا بها المؤمن حياته الطيّبة ويَعمُر بها العالَم الإنسانيّ حقّ عمارته ، وهي التي تُلائم سير النظام الكونيّ الذي أدّى‏ إلى‏ ظهور الإنسان بوجوده المفطور علَى الاعتقاد الحقّ والعمل الصالح .
والكُمّل من المؤمنين - وهم الذين قالوا : ربّنا اللَّه ثمّ استقاموا، فتحقّقوا بهذا القول الثابت والكلمة الطيّبة - مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال النّاس منتفعين بخيرات وجودهم ومنعّمين ببركاتهم . وكذلك كلّ كلمةٍ حقّةٍ وكلّ عملٍ صالحٍ مثله هذا المثل ، له أصل ثابت وفروع رشيدة وثمرات طيّبة مفيدة نافعة .
فالمَثَل المذكور في الآية يجري في الجميع، كما يؤيّده التعبير بكلمةٍ طيّبةٍ بلفظ النكرة . غير أنّ المراد في الآية على‏ ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرّع عليه سائر الاعتقادات الحقّة ، وينمو عليه الأخلاق الزّاكية و تنشأ منه الأعمال الصّالحة.
ثمّ ختم اللَّه سبحانه الآية بقوله : (ويَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ للنّاسِ لَعلَّهُم يَتَذكّرونَ) ليتذكّر به المتذكّر أنْ لا محيص لمُريد السعادة عن التحقّق بكلمة التوحيد والاستقامة عليها .۱

(انظر) بحار الأنوار : 24/136 باب 44 .

1.الميزان في تفسير القرآن : ۱۲/۵۱ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
18

التّفسير :

اختلفوا في الآية ؛ أوّلاً : في المراد من الكلمة الطيّبة ، فقيل : هي شهادة أن لا إله إلّا اللَّه ، وقيل : الإيمان ، وقيل : القرآن ، وقيل : مطلق التسبيح والتنزيه ، وقيل : الثناء علَى اللَّه مطلقاً ، وقيل : كلّ كلمة حسنة ، وقيل : جميع الطاعات ، وقيل : المؤمن .
وثانياً: في المراد من الشجرة الطيّبة ، فقيل : النخلة وهو قول الأكثرين ، وقيل : شجرة جَوز الهند ، وقيل : كلُّ شجرةٍ تُثمر ثمرةً طيّبةً كالتِّين والعِنب والرمّان ، وقيل : شجرةٌ صفتها ما وصفه اللَّه وإنْ لم تكن موجودةً بالفعل .
ثمّ اختلفوا في المراد بالحِين ، فقيل : شهران ، وقيل : ستّة أشهُرٍ ، وقيل : سنةٌ كاملةٌ ، وقيل : كلّ غداةٍ وعشيٍّ ، وقيل : جميع الأوقات .
والاشتغال بأمثال هذه المشاجرات ممّا يصرف الإنسان عمّا يُهمّه من البحث عن معارف كتاب اللَّه ، والحصول على‏ مقاصد الآيات الكريمة وأغراضها .
والذي يُعطيه التدبّر في الآيات أنّ المراد بالكلمة الطيّبة - التي شُبّهت بشجرةٍ طيّبةٍ من صفتها كذا وكذا - هو الاعتقاد الحقّ الثابت ؛ فإنّه تعالى‏ يقول بعد ، وهو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ ...)۱ الآية . والقول هي الكلمة ، ولا كلّ كلمةٍ بما هي لفظٌ ، بل بما هي مُعتمدةٌ على‏ اعتقادٍ وعزمٍ يستقيم عليه الإنسان ولا يَزيغ عنه عملاً.
وقد تعرّض تعالى‏ لِما يَقرب من هذا المعنى‏ في مواضع من كلامه، كقوله : (إنّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيهِم ولاهُمْ يَحْزَنُونَ)۲ ، وقوله : (إنَّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنزَّلُ علَيهِمُ المَلائكَةُ أنْ لَاتَخافُوا ولَا تَحْزَنُوا)۳ ، وقوله : (إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ) .۴

1.إبراهيم : ۲۷ .

2.الأحقاف : ۱۳ .

3.فصّلت : ۳۰ .

4.فاطر : ۱۰ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 182680
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي