183
ميزان الحکمه المجلد الثامن

تعالى‏ وبين خلقه بإنفاذ أمره فيهم ، وليس ذلك على‏ سبيل الاتّفاق بأن يُجري اللَّه سبحانه أمراً بأيديهم ثمّ يُجري مثله لا بتوسيطهم فلا اختلاف ولا تخلّف في سنّته تعالى‏: (إنّ ربّي على‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)۱، وقال : (فلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبديلاً ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحويلاً) .۲
ومن الوساطة : كون بعضهم فوق بعض مقاماً وأمر العالي منهم السافل بشي‏ءٍ من التدبير ؛ فإنّه في الحقيقة توسّط من المتبوع بينه تعالى‏ وبين تابعه في إيصال أمر اللَّه تعالى‏، كتوسّط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى‏ حاكياً عن الملائكة : (وما مِنّا إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلومٌ)۳ ، وقال : (مُطاعٍ ثَمَّ أمينٍ)۴ ، وقال : (حَتّى‏ إذا فُزِّعَ عَن قُلوبِهِم قالوا ماذا قالَ ربُّكُمْ قالوا الحَقّ) .۵
ولا ينافي هذا الذي ذكر - من توسّطهم بينه تعالى‏ وبين الحوادث ؛ أعني كونهم أسباباً تستند إليها الحوادث - استناد الحوادث إلى‏ أسبابها القريبة المادّية ؛ فإنّ السببيّة طوليّة لا عرضيّة ؛ أي إنّ السبب القريب سبب للحادث ، والسبب البعيد سبب للسبب .
كما لا ينافي توسّطهم واستناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى‏ وكونه هو السبب الوحيد لها جميعاً على‏ ما يقتضيه توحيد الربوبيّة؛ فإنّ السببيّة طوليّة كما سمعت لا عرضيّة، ولا يزيد استناد الحوادث إلَى الملائكة استنادها إلى‏ أسبابها الطبيعيّة القريبة ، وقد صدَّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلَى الحوادث الطبيعيّة كما صدَّق استنادها إلَى الملائكة .
وليس لشي‏ءٍ من الأسباب استقلال قباله تعالى‏ حتّى‏ ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلَى اللَّه سبحانه ،

1.هود : ۵۶ .

2.فاطر : ۴۳ .

3.الصافّات : ۱۶۴ .

4.التكوير : ۲۱ .

5.سبأ : ۲۳ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
182

كلام في‏أنّ‏الملائكة وسائط في التدبير :

الملائكة وسائط بينه تعالى‏ وبين الأشياء بَدءاً وعَوداً على‏ ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى‏ أنّهم أسباب للحوادث فوق الأسباب المادّية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى‏ نشأة الآخرة وبعده .
أمّا في العَود - أعني حال ظهور آيات الموت وقبض الروح وإجراء السؤال وثواب القبر وعذابه وإماتة الكلّ بنفخ الصُّور وإحيائهم بذلك والحشر وإعطاء الكتاب ووضع الموازين والحساب والسَّوق إلَى الجنّة والنار - فوساطتهم فيها غنيّ عن البيان ، والآيات الدالّة علَى ذلك كثيرة لا حاجة إلى‏ إيرادها ، والأخبار المأثورة فيها عن النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام فوق حدّ الإحصاء.
وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبيّ وتأييد المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار .
وأمّا وساطتهم في تدبير الاُمور في هذه النشأة فيدلّ عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله : (والنّازِعاتِ غَرْقاً * والنّاشِطاتِ نَشْطاً * والسّابِحاتِ سَبْحاً * فالسَّابِقاتِ سَبْقاً * فالمُدَبِّراتِ أمْراً)۱ بما تقدّم من البيان .
وكذا قوله تعالى‏: (جاعِلِ المَلائكَةِ رُسُلاً اُولي أجْنِحَةٍ مَثْنى‏ وثُلاثَ ورُباع)۲ الظاهر بإطلاقه - على‏ ما تقدّم من تفسيره - في أنّهم خُلقوا وشأنهم أن يتوسّطوا بينه تعالى‏ وبين خلقه ويرسلوا لإنفاذ أمره الذي يستفاد من قوله تعالى‏ في صفتهم : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمونَ * لا يَسْبِقونَهُ بالقَولِ وهُمْ بأمْرِهِ يَعْمَلونَ)۳ ، وقوله : (يَخافُونَ ربَّهُم مِن فَوقِهِم ويَفعَلونَ ما يُؤمَرونَ)۴ وفي جعل الجناح لهم إشارة ذلك .
فلا شغل للملائكة إلّا التوسّط بينه

1.النازعات : ۱ - ۵ .

2.فاطر : ۱ .

3.الأنبياء : ۲۶ و ۲۷ .

4.النحل : ۵۰ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 179499
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي