193
ميزان الحکمه المجلد الثامن

والغصب والتغلّب كما لا نزال نشاهد ذلك في المجتمعات الإنسانيّة .
وهذا المعنى‏ على‏ أنّه وضعيّ اعتباريّ وإن أمكن تصويره في مورده تعالى‏ من جهة أنّ الحكم الحقّ في المجتمع البشريّ للَّه سبحانه كما قال تعالى‏ : (إنِ الحُكْمُ إلّا للَّهِ)۱ وقال : (لَهُ الحَمْدُ في الاُولى‏ والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ)۲ لكن تحليل معنى‏ هذا الملك الوضعيّ يكشف عن ثبوت ذلك في الحقائق ثبوتاً غير قابل للزوال والانتقال ، كما أنّ الواحد منّا يملك نفسه بمعنى‏ أنّه هو الحاكم المسلّط المتصرّف في سمعه وبصره وسائر قواه وأفعاله ؛ بحيث إنّ سمعه إنّما يسمع وبصره إنّما يبصر بتبع إرادته وحكمه ، لا بتبع إرادة غيره من الأناسيّ وحكمه . وهذا معنىً حقيقيّ لا نشكّ في تحقّقه فينا مثلاً تحقّقاً لا يقبل الزوال والانتقال كما عرفت . فالإنسان يملك قوى نفسه وأفعال نفسه وهي جميعاً تبعات وجوده قائمة به غير مستقلّة عنه ولا مستغنية عنه ، فالعين إنّما تبصر بإذن من الإنسان الذي يبصر بها ، وكذا السمع يسمع بإذن منه ، ولولا الإنسان لم يكن بصر ولا إبصار ولا سمع ولا استماع ، كما أنّ الفرد من المجتمع إنّما يتصرّف فيما يتصرّف فيه بإذن من الملك أو وليّ الأمر . ولو لم تكن هذه القوّة المدبّرة التي تتوحّد عندها أزمّة المجتمع لم يكن اجتماع ، ولو منع عن تصرّف من التصرّفات الفرديّة لم يكن له أن يتصرّف ولا نفذ منه ذلك . ولا شكّ أنّ هذا المعنى‏ بعينه موجود للَّه سبحانه الذي إليه تكوين الأعيان وتدبير النظام ، فلا غنى‏ لمخلوق عن الخالق عزّ اسمه لا في نفسه ولا في توابع نفسه من قوى‏ وأفعال ، ولا استقلال له لا منفرداً ولا في حال اجتماعه مع سائر أجزاء الكون وارتباط قوى العالم وامتزاج بعضها ببعض امتزاجاً يكوّن هذا النظام العامّ المشاهد .

1.الأنعام : ۵۷ .

2.القصص : ۷۰ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
192

آلهَةَ إنّي أراكَ...)1 إلخ ، أنّه عليه السلام اُري الحقّ في ذلك ، فالمعنى‏ : على‏ هذا المثال من الإراءة نُري إبراهيم مُلك السماوات والأرض .
وبمعونة هذه الإشارة ودلالة قوله في الآية التالية : (فلَمّا جَنَّ علَيهِ اللّيلُ) الدالّة علَى ارتباط ما بعده بما قبله ، يظهر أنّ قوله : (نُري) لحكاية الحال الماضية كقوله تعالى‏ : (ونُريدُ أنْ نَمُنَّ علَى الّذينَ اسْتُضعِفوا في الأرضِ) .2
فالمعنى‏ : أنّا أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض فبعثه ذلك أن حاجّ أباه وقومه في أمر الأصنام وكشف له ضلالهم ، وكنّا نمدّه بهذه العناية والموهبة وهي إراءة الملكوت ، وكان على‏ هذه الحال حتّى جنّ عليه الليل ورأى‏ كوكباً.
وبذلك يظهر أنّ ما يتراءى‏ من بعضهم : أنّ قوله : (وكذلكَ نُري...) إلخ، كالمعترضة لا يرتبط بما قبله ولا بما بعده ، وكذا قول بعضهم : إنّ إراءة الملكوت أوّل ما ظهر من أمرها في إبراهيم عليه السلام أنّه لمّا جنّ عليه الليل رأى‏ كوكباً ... إلخ ، فاسد لا ينبغي أن يُصار إليه .
وأمّا ملكوت السماوات والأرض، فالملكوت هو المُلك مصدر كالطاغوت والجَبَروت ، وإن كان آكد من حيث المعنى‏ بالنسبة إلَى الملك كالطاغوت والجبروت بالنسبة إلَى الطغيان والجبر أو الجبران .
والمعنَى الذي يستعمله فيه القرآن هو المعنَى اللُّغويّ بعينه من غير تفاوت كسائر الألفاظ المستعملة في كلامه تعالى‏ ، غير أنّ المصداق غير المصداق ؛ وذلك أنّ الملك والملكوت وهو نوع من السلطنة إنّما هو فيما عندنا معنىً افتراضيّ اعتباريّ بعثنا إلَى اعتباره الحاجة الاجتماعيّة إلى‏ نظم الأعمال والأفراد نظماً يؤدّي إلَى الأمن والعدل والقوّة الاجتماعيّات ، وهو في نفسه يقبل النقل والهبة

1.الأنعام : ۷۴ .

2.القصص : ۵ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 179531
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي