23
ميزان الحکمه المجلد الثامن

يدعوهم إلَى الحقّ استوجب ذلك أن يُنسب المثل إلَى الذين كفروا لا إلى‏ رسول اللَّه تعالى‏ ، فأنتج ما أشبه القلب .۱
وفي قوله تعالى‏ : (مَثَلُ الّذينَ كَفَروا بَرَبِّهِمْ أعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بهِ الرِّيحُ في يَومٍ عاصِفٍ...) إلى‏ آخر الآية : يومٌ عاصفٌ: شديد الرّيح ، تمثيلٌ لأعمال الكفّار من حيث تترتّب نتائجها عليها ، وبيان أنّها حبطٌ باطلةٌ لا أثر لها من جهة السعادة ، فهو كقوله تعالى‏: (وقَدِمْنا إلى‏ ما عَمِلوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثوراً)۲ ، فأعمالهم كذرّاتٍ من الرماد اشتدّت به الريح في يومٍ شديد الريح فنثرته ولم يبق منه شيئاً ، هذا مثلهم من جهة أعمالهم .
ومن هنا يظهر أنْ لاحاجة إلى‏ تقدير شي‏ءٍ في الكلام وإرجاعه إلى‏ مِثل قولنا : مَثَل أعمال الذين كفروا ... إلخ . والظاهر أنّ الآية ليست من تمام كلام موسى‏ ، بل هي كالنتيجة المحصّلة من كلامه المنقول.۳
وفي قوله تعالى‏ : (والّذينَ كَفَروا أعْمالُهُم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً...) إلى‏ آخر الآية : السّراب هو مايلمع في المفازة كالماء ولا حقيقة له ، والقِيع والقاع هو المُستوي من الأرض ، ومفرداهما القيعة والقاعة كالتِّينة والتَّمرة ، والظمآن هو العطشان .
لمّا ذكر سبحانه المؤمنين ووصفهم بأنّهم ذاكرون له في بيوتٍ معظّمةٍ لا تلهيهم عنه تجارة ولا بيع ، وأنّ اللَّه الذي هو نور السماوات والأرض يهديهم بذلك إلى‏ نوره فيكرمهم بنور معرفته ، قابل ذلك بذكر الذين كفروا، فوصف أعمالهم تارةً بأنّها لاحقيقة لها كسرابٍ بقيعةٍ فلا غاية لها تنتهي إليها ، وتارةً بأنّها كظلماتٍ بعضها فوق بعضٍ لانور معها وهي حاجزةٌ عن النور . وهذه الآية هي التي تتضمّن الوصف الأوّل .
فقوله : (والّذينَ كَفَروا أعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حتّى‏ إذا جاءَهُ لَم يَجِدْهُ شَيئاً) شبّه أعمالهم - وهي التي

1.الميزان في تفسير القرآن : ۱/۴۲۰ .

2.الفرقان : ۲۳ .

3.الميزان في تفسير القرآن : ۱۲/۳۶ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
22

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى‏ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) .۱

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) .۲

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى‏ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئَاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورَاً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) .۳

(إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ) .۴

التّفسير :

قال العلّامة الطباطبائي في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا...) : المَثَل هو الكلام السائر ، والمثل هو الوصف، كقوله تعالى‏ : (انظُرْ كَيفَ ضَرَبوا لَكَ الأمْثالَ فَضَّلُوا فَلا يَستَطيعونَ سَبيلاً) .۵والنَّعيقُ صوت الراعي لغنمه زجراً ، يقال : نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقاً إذا صاح بها زجراً ، والنداء مصدر نادى‏ ينادي مناداة ، وهو أخصّ من الدعاء، ففيه معنَى الجهر بالصوت ونحوه، بخلاف الدعاء .
والمعنى‏ - واللَّه أعلم - ومَثَلك في دعاء الذين كفروا كَمَثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلّا دعاءً ونداءً ما ، فينزجر بمجرّد قرع الصوت سمعَه من غير أن يعقل شيئاً ، فهم صُمٌّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم ، وبُكمٌ لايتكلّمون بما يفيد معنىً ، وعُميٌ لا يبصرون شيئاً فهم لا يعقلون شيئاً ؛ لأنّ الطُرق المؤديّة إلَى التعقّل مسدودةٌ عليهم.
ومن ذلك يظهر أنّ في الكلام قلباً أو عنايةً اُخرى‏ يعود إليه ؛ فإنّ المَثَل بالذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهُدى‏ لا مثل الكافرين المدعوّين إلَى الهُدى‏ ، إلّا أنّ الأوصاف الثلاثة التي استنتج واستخرج من المثل وذُكرت بعده - وهي قوله : (صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لايَعقِلونَ) - لمّا كانت أوصافاً للّذين كفروا لا لمن

1.هود : ۲۴ .

2.إبراهيم : ۱۸ .

3.النور : ۳۹ ، ۴۰ .

4.يس : ۸ ، ۹ .

5.الفرقان : ۹ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 179580
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي