25
ميزان الحکمه المجلد الثامن

فهولاء قومٌ اُلهوا عن ذكر ربّهم والأعمال الصالحة الهادية إلى‏ نوره وفيه سعادتهم، وحَسِبوا أنّ سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم ، والأعمال المقرّبة إليهم وفيها سعادتهم، فأكبّوا على‏ تلك الأعمال السرابيّة واستوفَوا بما يُمكنهم أن يأتوا بها مدّة أعمارهم، حتّى‏ حلّت آجالهم وشارفوا الدار الآخرة، فلم يجدوا شيئاً ممّا يؤمّلونه من أعمالهم، ولا أثراً من اُلوهيّة آلهتهم، فوفّاهم اللَّه حسابهم واللَّه سريع الحساب .
وقوله : (واللَّهُ سَريعُ الحِسابِ) إنّما هو لإحاطة علمه بالقليل والكثير، والحقير والخطير، والدقيق والجليل، والمتقدّم والمتأخّر على‏ حدٍّ سواءٍ .
واعلم أنّ الآية وإن كان ظاهرها بيان حال الكفّار من أهل الملل وخاصّة المشركين من الوثنيّين ، لكنّ البيان جارٍ في غيرهم من منكري الصانع ؛ فإنّ الإنسان كائناً من كان يرى‏ لنفسه سعادةً في الحياة ، ولا يرتاب أنّ الوسيلة إلى‏ نيلها أعماله التي يأتي بها ، فإن كان ممّن يقول بالصانع ويراه المؤثّر في سعادته بوجهٍ من الوجوه توسّل بأعماله إلى‏ تحصيل رضاه والفوز بالسّعادة التي يُقدّرها له . وإن كان ممّن يُنكره ويُنهي التأثير إلى‏ غيره توسّل بأعماله إلى‏ توجيه ما يقول به من المؤثّر كالدهر والطّبيعة والمادّة نحو سعادة حياته الدُّنيا التي لايقول بما وراءها .
فهؤلاء يَرَون المؤثّر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى‏ ، ولا مؤثّر غيره. ويَرَون مساعيهم الدنيويّة موصلةً لهم إلى‏ سعادتهم وليست إلّا سراباً لاحقيقةَ له . ولا يزالون يسعون حتّى‏ إذا تمّ ما قُدّر لهم من الأعمال بحلول ما سُمّي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئاً ، وعاينوا أنّ ما كانوا يتمنّون منها لم يكن إلّا طائف خَيالٍ أو حلم نائمٍ ، وعند ذلك يوفّيهم اللَّه حسابهم واللَّه سريع الحساب .
قوله تعالى‏ : (أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ


ميزان الحکمه المجلد الثامن
24

يأتون بها من قرابين وأذكارٍ وغيرهما من عباداتهم يتقرّبون بها إلى‏ آلهتهم - بسرابٍ بقِيعةٍ يحسبه الإنسان ماءً، ولا حقيقة له يترتّب عليها ما يترتّب علَى الماء من رفع العطش وغير ذلك .
وإنّما قيل : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) مع أنّ السراب يتراءى‏ ماءً لكلِّ راءٍ ؛ لأنّ المطلوب بيان سيره إليه ولايسير إليه إلّا الظَّمآن يدفعه إليه ما به من ظماءٍ ، ولذلك رتّب عليه قوله : (حتّى‏ إذا جاءَهُ لَم يَجِدْهُ شَيئاً) كأنّه قيل : كسرابٍ بِقيعةٍ يتخيّله الظمآن ماءً فيسير إليه ويقبل نحوه ليرتوي ويرفع عطشه به ، ولا يزال يسير حتّى‏ إذا جاءه لم يجده شيئاً .
والتعبير بقوله : (جاءَهُ) دون أن يقال : بَلَغه أو وصل إليه أو انتهى إليه ونحوها ؛ للإيماء إلى‏ أنّ هناك مَن يريد مجيئه وينتظره انتظاراً وهو اللَّه سبحانه ، ولذلك أردفه بقوله : (ووَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوفّاهُ حِسَابَهُ) ، فأفاد أنّ هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمرٍ تبعثهم نحوه فطرتهم وجبلّتهم، وهو السعادة التي يريدها كلّ إنسانٍ بفطرته وجبلّته، لكنّ أعمالهم لاتوصلهم إليه ، ولا أنّ الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاءً حسناً منهم لهم حقيقةً . بل الذي ينتهي إليه أعمالهم ويحيط هو بها ويجزيهم هو اللَّه سبحانه فيوفّيهم حسابهم . وتَوفيةُ الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال وإيصال ما يستحقّه صاحب الأعمال .
ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب ، وتشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء وعنده عذب الماء لكنّه يُعرض عنه ولايصغي إلى‏ مولاه الذي ينصحه ويدعوه إلَى شربه، بل يحسب السراب ماءً فيسير إليه ويُقبل نحوه ، وتشبيه مصيرهم إلَى اللَّه سبحانه بحلول الآجال وعند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلَى السراب إذا جاءه وعنده مولاه الذي كان ينصحه ويدعوه إلى‏ شرب الماء .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 155028
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي