فهولاء قومٌ اُلهوا عن ذكر ربّهم والأعمال الصالحة الهادية إلى نوره وفيه سعادتهم، وحَسِبوا أنّ سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم ، والأعمال المقرّبة إليهم وفيها سعادتهم، فأكبّوا على تلك الأعمال السرابيّة واستوفَوا بما يُمكنهم أن يأتوا بها مدّة أعمارهم، حتّى حلّت آجالهم وشارفوا الدار الآخرة، فلم يجدوا شيئاً ممّا يؤمّلونه من أعمالهم، ولا أثراً من اُلوهيّة آلهتهم، فوفّاهم اللَّه حسابهم واللَّه سريع الحساب .
وقوله : (واللَّهُ سَريعُ الحِسابِ) إنّما هو لإحاطة علمه بالقليل والكثير، والحقير والخطير، والدقيق والجليل، والمتقدّم والمتأخّر على حدٍّ سواءٍ .
واعلم أنّ الآية وإن كان ظاهرها بيان حال الكفّار من أهل الملل وخاصّة المشركين من الوثنيّين ، لكنّ البيان جارٍ في غيرهم من منكري الصانع ؛ فإنّ الإنسان كائناً من كان يرى لنفسه سعادةً في الحياة ، ولا يرتاب أنّ الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها ، فإن كان ممّن يقول بالصانع ويراه المؤثّر في سعادته بوجهٍ من الوجوه توسّل بأعماله إلى تحصيل رضاه والفوز بالسّعادة التي يُقدّرها له . وإن كان ممّن يُنكره ويُنهي التأثير إلى غيره توسّل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثّر كالدهر والطّبيعة والمادّة نحو سعادة حياته الدُّنيا التي لايقول بما وراءها .
فهؤلاء يَرَون المؤثّر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى ، ولا مؤثّر غيره. ويَرَون مساعيهم الدنيويّة موصلةً لهم إلى سعادتهم وليست إلّا سراباً لاحقيقةَ له . ولا يزالون يسعون حتّى إذا تمّ ما قُدّر لهم من الأعمال بحلول ما سُمّي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئاً ، وعاينوا أنّ ما كانوا يتمنّون منها لم يكن إلّا طائف خَيالٍ أو حلم نائمٍ ، وعند ذلك يوفّيهم اللَّه حسابهم واللَّه سريع الحساب .
قوله تعالى : (أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ