253
ميزان الحکمه المجلد الثامن

بانقطاع سبل الإنفاق من غير جهة الزكاة وانسداد باب الخيرات بالكلّيّة ، وفي ذلك إبطال غرض التشريع وإفساد المصلحة العامّة المشرّعة .
يقول : ليست هي حكومة استبداديّة قيصرانيّة أو كسروانيّة ، لا وظيفة لها إلّا بَسْط الأمن وكفّ الأذى‏ بالمنع عن إيذاء بعض الناس بعضاً ، ثمّ الناس أحرار فيما فعلوا غير ممنوعين عمّا اشتهوا من عمل أفرطوا أو فرّطوا ، أصلحوا أو أفسدوا ، اهتدوا أو ضلّوا وتاهوا ، والمتقلّد لحكومتهم حرّ فيما عمل ولا يسأل عمّا يفعل .
وإنّما هي حكومة اجتماعيّة دينيّة لا ترضى‏ عن الناس بمجرّد كفّ الأذى‏ ، بل تسوق الناس في جميع شؤون معيشتهم إلى‏ ما يصلح لهم ويهيّئ لكلٍّ من طبقات المجتمع - من أميرهم ومأمورهم ورئيسهم ومرؤوسهم ومخدومهم وخادمهم وغنيّهم وفقيرهم وقويّهم وضعيفهم - ما يسع له من سعادة حياتهم ، فترفع حاجة الغنيّ بإمداد الفقير وحاجة الفقير بمال الغنيّ ، وتحفظ مكانة القويّ باحترام الضعيف وحياة الضعيف برأفة القويّ ومراقبته ، ومصدريّة العالي بطاعة الداني وطاعة الداني بنصفة العالي وعدله ، ولا يتمّ هذا كلّه إلّا بنشر المبرّات وفتح باب الخيرات ، والعمل بالواجبات على‏ ما يليق بها والمندوبات على‏ ما يليق بها . وأمّا القصر علَى القدر الواجب وترك الإنفاق المندوب من رأس فإنّ فيه هدماً لأساس الحياة الدينيّة ، وإبطالاً لغرض الشارع ، وسيراً حثيثاً إلى‏ نظام مختلّ وهرج ومرج وفساد عريق لايصلحه شي‏ء ، كلّ ذلك عن المسامحة في إحياء غرض الدِّين ، والمداهنة مع الظالمين (إلّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتنَةٌ في الأرضِ وفَسادٌ كَبيرٌ) .۱
وكذلك قول أبي ذرّ لمعاوية فيما تقدّم من رواية الطبريّ : ما يَدعوكَ إلى‏ أن تُسمّيَ مالَ المُسلمينَ مالَ اللَّهِ ؟

1.الأنفال : ۷۳ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
252

وعلاج مريض وفكّ أسير وإنجاء غريم والكشف عن مكروب والتفريج عن مهموم وإجابة مضطرّ والدفع عن بيضة المجتمع الصالح وإصلاح ما فسد من الجوّ الاجتماعيّ ، وهي موارد لا تحصى‏ واجبة أو مندوبة أو مباحة لايتعدّى‏ فيها حدّ الاعتدال إلى‏ جانبَي الإفراط والتفريط والبخل والتبذير ، والمندوب من الإنفاق وإن لم يكن في تركه مأثم ولا إجرام شرعاً ولا عقلاً غير أنّ التسبّب إلى‏ إبطال المندوبات من رأس والاحتيال لرفع موضوعها من أشدّ الجرم والمعصية .
اعتبر ذلك فيما بين يديك من الحياة اليوميّة بما يتعلّق به من شؤون المسكن والمنكح والمأكل والمشرب والملبس تجد أنّ ترك النفل المستحبّ من شؤون الحياة والمعاش والاقتصار دقيقاً علَى الضروريّ منها - الذي هو بمنزلة الواجب الشرعيّ - يوجب اختلال أمر الحياة اختلالاً لا يجبره جابر ولا يسدّ طريق الفساد فيه سادّ .
وبهذا البيان يظهر أنّ قوله تعالى‏ : (والّذينَ يَكنِزونَ الذّهَبَ والفِضّةَ ولا يُنفِقونَها في سَبيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بعَذَابٍ ألِيمٍ) ليس من البعيد أن يكون مطلقاً يشمل الإنفاق المندوب بالعناية التي مرّت ؛ فإنّ في كنز الأموال رفعاً لموضوع الإنفاق المندوب كالإنفاق الواجب ، لا مجرّد عدم الإنفاق مع صلاحيّة الموضوع لذلك .
وبذلك يتبيّن أيضاً معنى‏ ما خاطب به أبو ذرّ عثمانَ بنَ عفّان لمّا دخل عليه على‏ ما تقدّم في رواية الطبريّ حيث قال له : «لا تَرضوا مِن النّاسِ بكَفِّ الأذى‏ حتّى‏ يَبذِلوا المَعروفَ ، وقد يَنبغي لِمُؤدّي الزّكاةَ أن لا يَقتصِرَ علَيها حتّى‏ يُحسِنَ إلَى الجيرانِ والإخوانِ ويَصِلَ القَراباتِ» .
فإنّ لفظه كالصريح أو هو صريح في أ نّه لا يرى‏ كلّ إنفاق فيما يفضل من المؤنة بعد الزكاة واجباً ، وأ نّه يقسّم الإنفاق في سبيل اللَّه إلى‏ ما يجب وما ينبغي ، غير أ نّه يعترض

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 182565
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي