وفي قوله تعالى : (إنّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِم أغْلالاً فَهِيَ إلَى الأذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحونَ): الأعناق: جمع عُنُق بضمّتين وهو الجِيد ، والأغلال: جمع غِلّ بالكسر، وهي على ماقيل: ما تُشدُّ به اليد إلَى العنق للتعذيب والتشديد . ومُقمَحون: اسم مفعولٍ من الإقماح، وهو رفع الرأس، كأنّهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم فبقيت رؤوسهم مرفوعةً إلَى السماءِ لا يتأتّى لهم أن ينكسوها فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها ويميّزوها من غيرها . وتنكير قوله : (أغلالاً) للتفخيم والتهويل . والآية في مقام التعليل لقوله السابق : (فَهُمْ لايُؤمِنونَ) .
قوله تعالى : (وجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أيْديهِم سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِم سَدّاً فأغْشَيْناهُم فَهُم لايُبْصِرونَ)، السدّ: الحاجز بين الشيئين . وقوله : (مِن بَينِ أيْديهِم... ومِنْ خَلْفِهِم) كناية عن جميع الجهات ، والغَشي والغَشَيان: التغطية، يقال : غشيه كذا أي غطّاه ، وأغشى الأمر فلاناً أي جعل الأمر يُغطّيه ، والآية متمّمةٌ للتعليل السابق ، وقوله : (جَعَلْنا) معطوفٌ على (جَعَلْنا) المتقدّم .
وعن الرازيّ في تفسيره، في معنى التشبيه في الآيتين : أنّ المانع عن النظر في الآيات قسمان : قسمٌ يمنع عن النظر في الأنفُس، فشبّه ذلك بالغِلّ الذي يجعل صاحبه مُقمَحاً لايرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه . وقسمٌ يمنع عن النظر في الآفاق، فشبّه ذلك بالسدّ المحيط ؛ فإنّ المحاط بالسدّ لايقع نظره علَى الآفاق، فلا يظهر له ما فيها من الآيات ، فمن ابتُلي بهما حُرم عن النظر بالكلّيّة .
ومعنَى الآيتين أنّهم لايؤمنون؛ لأنّا جعلنا في أعناقهم أغلالاً نشدُّ بها أيديهم على أعناقهم فهي إلَى الأذقان فهم مرفوعةً رؤوسهم باقون على تلك الحال ، وجعلنا من جميع جهاتهم سدّاً فجعلناه يغطّيهم فهم لايبصرون فلا يهتدون ، ففي الآيتين تمثيلٌ لحالهم في