27
ميزان الحکمه المجلد الثامن

وفي قوله تعالى‏ : (إنّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِم أغْلالاً فَهِيَ إلَى الأذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحونَ): الأعناق: جمع عُنُق بضمّتين وهو الجِيد ، والأغلال: جمع غِلّ بالكسر، وهي على‏ ماقيل: ما تُشدُّ به اليد إلَى العنق للتعذيب والتشديد . ومُقمَحون: اسم مفعولٍ من الإقماح، وهو رفع الرأس، كأنّهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى‏ أذقانهم فبقيت رؤوسهم مرفوعةً إلَى السماءِ لا يتأتّى‏ لهم أن ينكسوها فينظروا إلى‏ ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها ويميّزوها من غيرها . وتنكير قوله : (أغلالاً) للتفخيم والتهويل . والآية في مقام التعليل لقوله السابق : (فَهُمْ لايُؤمِنونَ) .
قوله تعالى‏ : (وجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أيْديهِم سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِم سَدّاً فأغْشَيْناهُم فَهُم لايُبْصِرونَ)، السدّ: الحاجز بين الشيئين . وقوله : (مِن بَينِ أيْديهِم... ومِنْ خَلْفِهِم) كناية عن جميع الجهات ، والغَشي والغَشَيان: التغطية، يقال : غشيه كذا أي غطّاه ، وأغشى‏ الأمر فلاناً أي جعل الأمر يُغطّيه ، والآية متمّمةٌ للتعليل السابق ، وقوله : (جَعَلْنا) معطوفٌ على‏ (جَعَلْنا) المتقدّم .
وعن الرازيّ في تفسيره، في معنى‏ التشبيه في الآيتين : أنّ المانع عن النظر في الآيات قسمان : قسمٌ يمنع عن النظر في الأنفُس، فشبّه ذلك بالغِلّ الذي يجعل صاحبه مُقمَحاً لايرى‏ نفسه ولا يقع بصره على‏ بدنه . وقسمٌ يمنع عن النظر في الآفاق، فشبّه ذلك بالسدّ المحيط ؛ فإنّ المحاط بالسدّ لايقع نظره علَى الآفاق، فلا يظهر له ما فيها من الآيات ، فمن ابتُلي بهما حُرم عن النظر بالكلّيّة .
ومعنَى الآيتين أنّهم لايؤمنون؛ لأنّا جعلنا في أعناقهم أغلالاً نشدُّ بها أيديهم على‏ أعناقهم فهي إلَى الأذقان فهم مرفوعةً رؤوسهم باقون على‏ تلك الحال ، وجعلنا من جميع جهاتهم سدّاً فجعلناه يغطّيهم فهم لايبصرون فلا يهتدون ، ففي الآيتين تمثيلٌ لحالهم في


ميزان الحکمه المجلد الثامن
26

لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) تشبيهٌ ثانٍ لأعمالهم، يظهر به أنّها حُجب متراكمة على‏ قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة ، وقد تكرّر في كلامه تعالى‏ أنّهم في الظُّلمات كقوله : (والّذينَ كَفَروا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُماتِ)1 وقوله : (كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيسَ بِخارِجٍ مِنْها)2 وقوله : (كَلّا بَلْ رانَ على‏ قُلوبِهِم مَا كانوا يَكْسِبونَ * كلّا إنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئذٍ لَمَحْجُوبُونَ) .3
وقوله : (أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ) معطوفٌ على‏ (سراب) في الآية السابقة . والبحر اللُّجّيُّ هو البحر المتردّد أمواجه، منسوبٌ إلى‏ لُجّة البحر وهي تردُّد أمواجه ، والمعنى‏: أعمالهم كظلماتٍ كائنةٍ في بحرٍ لُجّيٍّ .
وقوله : (يَغشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحابٌ) صفة البحر، جي‏ء بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه ، فصفته أنّه يغشاه ويحيط به موجٌ كائنٌ من فوقه موجٌ آخر كائنٌ مِن فوقه سحابٌ يحجبنه جميعاً من الاستضاءة بأضواء الشمس والقمر والنجوم .
وقوله : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوقَ بَعْضٍ) تقريرٌ لبيان أنّ المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على‏ بعضٍ دون المتفرّقة . وقد أكّد ذلك بقوله : (إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَم يَكَدْ يَراها) فإنّ أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه ، وهو أقدر على‏ رؤية يده منه على‏ سائر أعضائه ؛ لأنّه يُقرِّبها تجاه باصرته كيفما أراد ، فإذا أخرج يده ولم يكد يراها كانت الظّلمة بالغةً .
فهؤلاء - وهم سائرون إلَى اللَّه وصائرون إليه - من جهة أعمالهم كراكب بحرٍ لُجّيٍّ يغشاه موجٌ من فوقهِ موجٌ من فوقه سحابٌ في ظلمات متراكمة كأشدّ مايكون ، ولانور هناك يستضي‏ء به فيهتدي إلى‏ ساحل النّجاة .4

1.البقرة : ۲۵۷ .

2.الأنعام : ۱۲۲ .

3.المطفّفين : ۱۴ و ۱۵ .

4.الميزان في تفسير القرآن : ۱۵/۱۳۰ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 155002
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي