31
ميزان الحکمه المجلد الثامن

لَفَسدَتا)1، وعاد برهاناً على‏ نفي تعدّد الأرباب والآلهة .
وقوله : (الحَمْدُ للَّهِ) ثناءٌ للَّه بما أنّ عبوديّته خيرٌ من عبوديّة من سواه .
وقوله : (بَلْ أكْثَرُهُم لايَعْلَمونَ) مزيّة عبادته على‏ عبادة غيره على‏ ما له من الظهور التامّ لمن له أدنى‏ بصيرةٍ .2
قوله تعالى‏ : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلوكاً لا يَقْدِرُ على‏ شَي‏ءٍ...) إلى‏ آخر الآية ، مافي الآية من المثل المضروب يفرض عبداً مملوكاً لا يقدر على‏ شي‏ءٍ ، وآخرَ رُزِق من اللَّه رزقاً حسناً ينفق منه سرّاً وجهراً ، ثمّ يسأل: هل يستويان ؟! واعتبار التقابل بين المفروضين يعطي أنّ كلّاً من الطرفين مقيّدٌ بخلاف ما في الآخر من الوصف، مع تبيين الأوصاف بعضها لبعضٍ .
فالعبد المفروض مملوكٌ غير مالكٍ لا لنفسِه ولا لشي‏ءٍ من متاع الحياة، وهو غير قادرٍ علَى التصرّف في شي‏ءٍ من المال ، والذي فرض قباله حرّ يملك نفسه وقد رزقه اللَّه رزقاً حسناً ، وهو ينفق منه سرّاً وجهراً على‏ قدرة منه علَى التصرّف بجميع أقسامه .
وقوله : (هَلْ يَسْتَوونَ) سؤالٌ عن تساويهما ، ومن البديهيّ أنّ الجواب هو نفي التساوي . ويثبت به أنّ اللَّه سبحانه - وهو المالك لكلّ شي‏ءٍ ، المنعم بجميع النِّعم - لايساوي شيئاً من خلقه، وهم لايملكون لا أنفسهم ولا غيرهم ، ولا يقدرون على‏ شي‏ءٍ من التصرّف ، فمن الباطل قولهم: إنّ مع اللَّه آلهةً غيره وهم من خلقه .
والتعبير بقوله : (يَسْتَوونَ) دون أن يُقال : يستويان ؛ للدلالة على‏ أنّ المراد من ذلك الجنس من غير أن يختصّ بمولىً وعبد معيّنين كما قيل .
وقوله : (الحمدُ للَّهِ) أي له عزّ اسمه جنس الحمد وحقيقته ، وهو الثناء علَى الجميل الاختياريّ ؛ لأنّ جميل النعمة من عنده، ولا يُحمَد إلّا الجميل، فله تعالى‏ كلّ الحمد كما أنّ له جنسه ، فافهم ذلك .

1.الأنبياء : ۲۲ .

2.الميزان في تفسير القرآن : ۱۷/۲۵۸ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
30

لكنّ الإشراف على‏ حقيقة معانيها ولُبِّ مقاصدها، خاصّة لأهل العلم ممّن يعقل حقائق الاُمور ولاينجمد على‏ ظواهرها . والدليل على‏ هذا المعنى‏ قوله : (وما يَعْقِلُها) دون أن يقول : ومايؤمن بها أو ما في معناه .
فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى‏ يختلف النّاس في تلقّيها باختلاف أفهامهم ، فمن سامعٍ لا حظّ له منها إلّا تلقّي ألفاظها وتصوُّر مفاهيمها الساذجة من غير تعمّقٍ فيها وسبرٍ لأغوارها ، ومن سامع يتلقّى‏ بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثمّ يغور في مقاصدها العميقة ويعقل حقائقها الأنيقة .
وفيه تنبيهٌ على‏ أنّ تمثيل اتّخاذهم أولياء من دون اللَّه باتّخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت ليس مجرّد تمثيلٍ شعريّ ودعوىً خاليةٍ من البيّنة ، بل مُتّكٍ على‏ حجّة برهانيّة وحقيقة حقّة ثابتة، وهي الّتي تُشير إليه الآية التالية .1
قوله تعالى‏ : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ ورَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَويانِ مثلاً...) إلخ، قال الراغب : الشَّكِس - بالفتح فالكسر - سيّ‏ء الخلق ، وقوله : (شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي متشاجرون لشكاسة خلقهم ، انتهى‏ . وفسّروا السَّلَم بالخالص الذي لايشترك فيه كثيرون .
مَثَل ضربه اللَّه للمشرك الذي يعبد أرباباً وآلهةً مختلفين ، فيشتركون فيه وهم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الآخر، وكلّ يريد أن يتفرّد فيه ويخصّه بخدمة نفسه ، وللموحّد الذي هو خالصٌ لمخدومٍ واحدٍ لايشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنازعٍ يؤدّي إلى الحَيرة ، فالمشرك هو الرَّجل الذي فيه شركاء متشاكسون ، والموحّد هو الرجل الذي هو سَلَم لرجلٍ . لا يستويان بل الذي هو سلم لرجل أحسن حالاً من صاحبه.
وهذا مَثَل ساذجٌ ممكن الفهم لعامّة النّاس، لكنّه عند المداقة يرجِع إلى‏ قوله تعالى‏ : (لَو كانَ فيهِما آلهَةٌ إلّا اللَّهُ

1.الميزان في تفسير القرآن : ۱۶/۱۳۲ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 157624
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي