33
ميزان الحکمه المجلد الثامن

لايملك شيئاً ولايقدر على‏ شي‏ءٍ ، فيستنتج أنّ الربّ هو المنعم لاغير .
قوله تعالى‏ : (وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَينِ أحَدُهُما أبْكَمُ ...) إلى‏ آخر الآية . قال في المجمع : الأبكم الذي يولد أخرس لايَفهم ولايُفهِّم ، وقيل : الأبكم الذي لايقدر أن يتكلّم . والكَلّ الثِّقل ، يقال : كَلَّ عن الأمر يَكِلّ كَلّاً إذا ثَقُل عليه فلم ينبعث فيه ، وكَلَّت السكّين كُلولاً إذا غلظت شفرتها ، وكَلّ لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حدّه ، فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ . والتوجيه : الإرسال في وجهٍ من الطريق ، يقال : وجّهته إلى‏ موضع كذا فتوجّه إليه . انتهى‏ .
فقوله : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَينِ) مقايسة اُخرى‏ بين رجلَين مفروضَين متقابلَين في أوصافهما المذكورة .
وقوله : (أحَدُهُما أبْكَمُ لايَقْدِرُ على‏ شَيْ‏ءٍ)، أي محرومٌ من أن يَفهم الكلام ويُفهِّم غيرَه بالكلام، لكونه أبكم لايسمع ولاينطق فهو فاقد لجميع الفِعليّات والمزايا التي يكتسبها الإنسان من طريق السمع الذي هو أوسع الحواسّ نطاقاً ، به يتمكّن الإنسان من العلم بأخبار من مضى‏ وما غاب عن البصر من الحوادث وما في ضمائر النّاس ويعلم العلوم والصناعات ، وبه يتمكّن من إلقاء ما يدركه من المعاني الجليلة والدقيقة إلى‏ غيره ، ولايقوَى الأبكم على‏ دَرك شي‏ءٍ منها إلّا النزر اليسير ممّا يساعد عليه البصر بإعانة من الإشارة .
فقوله : (لايَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ) مخصّص عمومه بالأبكم ؛ أي لايقدر على‏ شي‏ءٍ ممّا يقدر عليه غير الأبكم ، وهو جملة ما يحرمه الأبكم من تلقّي المعلومات وإلقائها .
وقوله : (وَهُو كَلٌّ عَلى‏ مَوْلاهُ) أي ثِقلٌ وعِيالٌ على‏ من يلي ويدبّر أمره ، فهو لايستطيع أن يدبّر أمر نفسه .
وقوله : (أيْنَما يُوَجِّهْهُ لايَأتِ بِخَيرٍ) أي إلى‏ أيّ جهةٍ أرسله مولاه لحاجةٍ من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر


ميزان الحکمه المجلد الثامن
32

والجملة من تمام الحجّة، ومحصّلها : أنّه لايستوي المملوك الذي لايقدر أن يتصرّف في شي‏ءٍ ويُنعم بشي‏ءٍ ، والمالك الذي يملك الرزق ويقدر علَى التصرّف فيه ، فيتصرّف ويُنعم كيف شاء ، واللَّه سبحانه هو المحمود بكلّ حمدٍ إذ ما من نعمةٍ إلّا وهي من خلقه، فله كلّ صفةٍ يُحمد عليها كالخلق والرِّزق والرّحمة والمغفرة والإحسان والإنعام وغيرها ، فله كلّ ثناء جميل ، وما يعبدون من دونه مملوك لايقدر على‏ شي‏ء، فهو سبحانه الربّ وحده دون غيره .
وقد قيل : إنّ الحمد في الآية شكر على‏ نعمه تعالى‏ ، وقيل : حمد على‏ تمام الحجّة وقوّتها ، وقيل : تلقين للعباد ، ومعناه قالوا : الحمد للَّه الّذي دلّنا على‏ توحيده وهدانا إلى‏ شكر نعمه ، وهي وجوهٌ لا يُعبأ بها .
وقوله : (بَل أكَثَرُهُمْ لايَعْلَمونَ) أي أكثر المشركين لايعلمون أنّ النّعمةَ كلّها للَّه لايملك غيره شيئاً ولا يقدر على‏ شي‏ءٍ ، بل يُثبتون لأوليائهم شيئاً من الملك والقدرة على‏ سبيل التفويض فيعبدونهم طمعاً وخوفاً ، هذا حال أكثرهم، وأمّا أقلّهم من الخواصّ فإنّهم على‏ علمٍ من الحقّ لكنّهم يَحيدون عنه بغياً وعناداً .
وقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ الآية مَثَلٌ مضروبٌ في اللَّه سبحانه وفيمن يزعمونه شريكاً له في الرّبوبيّة. وقيل : إنّها مَثَل تمثّل به حال الكافر المخذول والمؤمن الموفّق ، فإنّ الكافر لإحباط عمله وعدم الاعتداد بأعماله كالعبد المملوك الذي لايقدر على‏ شي‏ءٍ فلا يُعدّ له إحسان وإن أنفق وبالغ ، بخلاف المؤمن الذي يوفّقه اللَّه لمرضاته ويشكر مساعيه ؛ فهو ينفق ممّا عنده من الخير سرّاً وجهراً .
وفيه : أنّه لايلائم سياق الاحتجاج الذي للآيات ، وقد تقدّم أنّ الآية إحدَى الآيات الثّلاث المتوالية التي تتعرّض لغرض تعداد النعم الإلهيّة ، وهي تذكّر بالتوحيد بمَثَل يقيس حال من يُنعم بجميع النعم من حال من

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 157619
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي