35
ميزان الحکمه المجلد الثامن

أن يلتزموا وسط الطريق ويجتنبوا حاشيتَي الإفراط والتفريط .
وأمّا السؤال - أعني ما في قوله : (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ ...) إلخ - فهو سؤالٌ لاجواب له إلّا النفي لاشكّ فيه ، وبه يثبت أنّ ما يعبدونه من دون اللَّه من الأصنام والأوثان - وهو مسلوب القدرة لايستطيع أن يهتدي من نفسه ولا أن يهدي غيره - لايساوي اللَّه تعالى‏، وهو على‏ صراط مستقيم في نفسه هادٍ لغيره بإرسال الرسل وتشريع الشرائع .
ومنه يظهر أنّ هذا المَثَل المضروب في الآية في معنى‏ قوله تعالى‏ : (أفَمَنْ يَهْدِي إلى‏ الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمْ مَنْ لا يَهِدِّي إلّا أنْ يُهْدى‏ فمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمونَ)۱؛ فاللَّه سبحانه على‏ صراط مستقيم في صفاته وأفعاله ، ومن استقامة صراطه أن يجعل لِما خلقه من الأشياء غاياتٍ تتوجّه إليها فلا يكون الخلق باطلاً ، كما قال : (ومَا خَلَقْنا السَّماء والأرْضَ ومَابَيْنَهُما باطِلاً)۲، وأن يهدي كلّاً إلى‏ غايته الّتي تخصّه كما خلقها وجعل لها غايةً ، كما قال : (الّذي أعْطَى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏)۳ ، فيهدي الإنسان إلى‏ سبيل قاصد كما قال : (وَعَلَى‏ اللَّهِ قَصْدُ السَّبيلِ)۴ ، وقال : (إنّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ) .۵
وهذا أصل الحجّة علَى النبوّة والتشريع . وقد مرّ تمامه في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني، وفي قصص نوحٍ في الجزء العاشر من الكتاب .
فقد تحصّل : أنّ الغرض من المثل المضروب في الآية إقامة حجّة علَى التوحيد مع إشارة إلَى النبوّة والتشريع .
وقيل : إنّه مثل مضروب فيمن يؤمّل منه الخير ومن لايؤمّل منه . وأصل الخير كلّه من اللَّه تعالى‏، فكيف يستوي بينه وبين شي‏ء سواه في العبادة ؟ !
وفيه : أنّ المورد أخصّ من ذلك ، فهو مثل مضروب فيمن هو على‏ خير في نفسه وهو يأمر بالعدل وهو شأنه تعالى‏ دون غيره، على‏ أنّهم لا يساوون

1.يونس : ۳۵ .

2.ص : ۲۷ .

3.طه : ۵۰ .

4.النحل : ۹ .

5.الدهر : ۳ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
34

على‏ رفعها، فهو لا يستطيع أن ينفع غيره كما لاينفع نفسه، فهذا - أعني قوله : (أحَدُهُما أبْكَمُ لايَقْدِرُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ...) إلخ - مَثَل أحد الرجلَين ، ولم يذكر سبحانه مَثَلَ الآخر؛ لحصول العلم به من قوله : (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ ...)إلخ ، وفيه إيجاز لطيف .
وقوله : (هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ) فيه إشارةٌ إلى‏ وصف الرجل المفروض ، وسؤالٌ عن استوائهما إذا قويس بينهما وعدمه .
أمّا الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن أن يتلبّس به غير الأبكم من الخير والكمال الذي يحلّي نفسه ويعدو إلى‏ غيره، وهو العدل الذي هو التزام الحدّ الوسط في الأعمال واجتناب الإفراط والتفريط ؛ فإنّ الأمر بالعدل إذا جرى‏ على‏ حقيقته كان لازمه أن يتمكّن الصلاح من نفس الإنسان ، ثمّ ينبسط على‏ أعماله فيلتزم الاعتدال في الاُمور ، ثمّ يحبّ انبساطه على‏ أعمال غيره من النّاس فيأمرهم بالعدل ، وهو - كما عرفت - مطلق التجنّب عن الإفراط والتفريط، أي العمل الصالح أعمّ من العدل في الرعيّة .
ثمّ وصفه بقوله: (وَهُوَ على‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)، وهو السبيل الواضح الذي يهدي سالكيه إلى‏ غايتهم من غير عِوَجٍ . والإنسان الذي هو في مسير حياته على‏ صراطٍ مستقيمٍ يجري في أعماله علَى الفطرة الإنسانيّة من غير أن يناقض بعض أعماله بعضاً أو يتخلّف عن شي‏ءٍ ممّا يراه حقّاً . وبالجملة : لاتخلّف ولا اختلاف في أعماله .
وتوصيف هذا الرجل المفروض الذي يأمر بالعدل بكونه على‏ صراطٍ مستقيمٍ يفيد أوّلاً : أنّ أمره بالعدل ليس من أمر النّاس بالبرّ ونسيان نفسه ، بل هو مستقيم في أحواله وأعماله، يأتي بالعدل كما يأمر به . وثانياً : أنّ أمره بالعدل ليس ببدعٍ منه من غير أصلٍ فيه يبتني عليه ، بل هو في نفسه على‏ مستقيم الصراط ، ولازمه أن يحبّ لغيره ذلك فيأمرهم

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 157616
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي