491
ميزان الحکمه المجلد الثامن

ثمّ إنّ عيسى‏ عليه السلام اُوتي الرسالة إلى‏ بني إسرائيل ، فانبعث يدعوهم إلى‏ دين التوحيد ويقول : إنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفُخ فيه فيكون طيراً بإذن اللَّه ، واُبرئ الأكمه والأبرص واُحيي الموتى‏ بإذن اللَّه ، واُنبّئُكُم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ، إنّ في ذلك لآية لكم ، إنّ اللَّه هو ربّي وربّكم فاعبدوه .
وكان يدعوهم إلى‏ شريعته الجديدة وهو تصديق شريعة موسى‏ عليه السلام ، إلّا أنّه نسخ بعض ما حُرّم في التوراة تشديداً علَى اليهود ، وكان يقول : إنّي قد جئتكم بالحكمة ولاُبيِّن لكم بعض الذي تختلفون فيه ، وكان يقول : يا بني إسرائيل ، إنّي رسول اللَّه إليكم مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة مبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .
وأنجز عليه السلام ماذكره لهم من المعجزات كخلق الطير ، وإحياء الموتى‏ ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار عن المغيّبات بإذن اللَّه .
ولم يزل يدعوهم إلى‏ توحيد اللَّه وشريعته الجديدة حتّى‏ أيس من إيمانهم ؛ لِما شاهد من عتوّ القوم وعنادهم واستكبار الكهنة والأحبار عن ذلك ، فانتخب من الشرذمة التي آمنت به الحواريّين أنصاراً له إلَى اللَّه .
ثم إنّ اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوفّاه اللَّه ورفعه إليه ، وشُبِّه لليهود : فمن زاعم أنّهم قتلوه ، ومن زاعم أنّهم صلبوه ، ولكن شُبّه لهم (آل عمران آية 45 - 58 ، الزخرف آية 63 - 65 ، الصفّ آية 6 و 14 ، المائدة آية 110 و 111 ، النساء آية 157 و 158) ، فهذه جمل ما قصّه القرآن في عيسَى بن مريم واُمّه .

2 . منزلة عيسى‏ عليه السلام عند اللَّهِ وموقفه في نفسه:

كان عليه السلام عبداً للَّه وكان نبيّاً (سورة مريم آية 30) وكان رسولاً إلى‏ بني إسرائيل (آل عمران آية 49)، وكان واحداً من


ميزان الحکمه المجلد الثامن
490

والحكمة والتوراة والإنجيل ، ورسولاً إلى‏ بني إسرائيل ذا الآيات البيّنات ، وأنبأها بشأنه وقصّته ، ثمّ نفخ الروح فيها فحملت بها حمل المرأة بولدها (الآيات من آل عمران : 35 - 44) .
ثمّ انتبذت مريم به مكاناً قصيّاً ، فأجاءها المخاض إلى‏ جذع النخلة ، قالت : يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً ، فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً ، وهُزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطباً جنيّاً ، فكُلي واشربي وقرّي عيناً فإمّا ترينَّ من البشر أحداً فقولي : إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن اُكلّم اليوم إنسيّاً ، فأتت به قومها تحمله (سورة مريم : 20 - 27) . وكان حمله ووضعه وكلامه وسائر شؤون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان .
فلمّا رآها قومها - والحال هذه - ثاروا عليها بالطعنة واللوم بما يشهد به حال امرأة حملت ووضعت من غير بعل ، وقالوا : يا مريم ، لقد جئت شيئاً فريّاً ! يا اُخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت اُمّك بغيّاً ، فأشارت إليه ، قالوا : كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً ؟! قال : إنّي عبد اللَّه آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً ، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً ، وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً ، والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم اُبعث حيّاً (سورة مريم آية 27 - 33) ، فكان هذا الكلام منه عليه السلام كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى‏ ما سينهض علَى البغي والظلم ، وإحياء شريعة موسى‏ عليه السلام وتقويمه ، وتجديد ما اندرس من معارفه ، وبيان ما اختلفوا فيه من آياته .
ثمّ نشأ عيسى‏ عليه السلام وشبّ وكان هو واُمّه علَى العادة الجارية في الحياة البشريّة : يأكلان ويشربان ، وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى‏ آخر ما عاشا .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 182840
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي