493
ميزان الحکمه المجلد الثامن

وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّكَ أنْتَ العَزيزُ الحَكيمُ * قالَ اللَّهُ هذا يَومُ يَنْفَعُ الصّادِقينَ صِدْقُهُم) .1
وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبوديّة على‏ عصارتها ، ويتضمّن من بارع الأدب على‏ مجامعه ، يُفصح عمّا كان يراه عيسَى المسيح عليه السلام من موقفه نفسه تلقاء ربوبيّة ربّه ، وتجاه الناس وأعمالهم ؛ فذكر أنّه كان يرى‏ نفسه بالنسبة إلى‏ ربّه عبداً لا شأن له إلّا الامتثال ، لا يرد إلّا عن أمر ، ولا يصدر إلّا عن أمر ، ولم يؤمر إلّا بالدعوة إلى‏ عبادة اللَّه وحده ، ولم يقل لهم إلّا ما اُمر به : أنِ اعبدوا اللَّه ربّي وربّكم .
ولم يكن له من الناس إلّا تحمّل الشهادة على‏ أعمالهم فحسب ، وأمّا ما يفعله اللَّه فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك ؛ غفر أو عذّب .
فإن قلت : فما معنى ما تقدّم في الكلام علَى الشفاعة : أنّ عيسى‏ عليه السلام من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفّع ؟
قلت : القرآن صريح أو كالصريح في ذلك ، قال تعالى‏ : (ولا يَمْلِكُ الّذينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفاعَةَ إلّا مَنْ شَهِدَ بالحَقِّ وهُمْ يَعْلَمونَ)2 ، وقد قال تعالى‏ فيه : (ويَوْمَ القِيامَةِ يَكونُ علَيْهِم شَهيداً)3 ، وقال تعالى‏ : (وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوراةَ والإنْجيلَ) .4 وقد تقدّم إشباع الكلام في معنَى الشفاعة ، وهذا غير التّفدية التي يقول بها النّصارى‏ ، وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض ؛ فإنّها تبطل السلطنة المطلقة الإلهيّة على‏ ماسيجي‏ء من بيانه ، والآية إنّما تنفي ذلك . وأمّا الشفاعة فالآية غير متعرّضة لأمرها لا إثباتاً ولا نفياً ؛ فإنّها لو كانت بصدد إثباتها - على‏ منافاته للمقام‏5 - لكان حقّ الكلام أن يقال : وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم ، ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة علَى الناس وجه ، وهذا

1.المائدة : ۱۱۶ - ۱۱۹ .

2.الزخرف : ۸۶ .

3.النساء : ۱۵۹ .

4.المائدة : ۱۱۰ .

5.فإنّ المقام مقام التذلّل دون الاسترسال. (كما في هامش المصدر).


ميزان الحکمه المجلد الثامن
492

الخمسة اُولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل (الأحزاب آية 7 ، الشورى‏ آية 13 ، المائدة آية 46) ، وكان سمّاه اللَّه بالمسيح عيسى‏ (آل عمران آية 45) ، وكان كلمة للَّه وروحاً منه (النساء آية 171)، وكان إماماً (الأحزاب آية 7)، وكان من شهداء الأعمال (النساء آية 159 ، المائدة آية 117) ، وكان مبشّراً برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله (الصفّ آية 6) ، وكان وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين (آل عمران آية 45) ، وكان من المصطفين (آل عمران آية 33)، وكان من المجتبين ، وكان من الصالحين (الأنعام آية 85 - 87) ، وكان مباركاً أينما كان ، وكان زكيّاً ، وكان آية للناس ورحمة من اللَّه وبرّاً بوالدته ، وكان مسلَّماً عليه (مريم آية 19 - 33) ، وكان ممّن علّمه اللَّه الكتاب والحكمة (آل عمران آية 48) .
فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الوَلاية هي جُمَل ما وصف اللَّه به هذا النبيّ المكرّم ورفع بها قدره ، وهي على‏ قسمين : اكتسابيّة كالعبوديّة والقرب والصلاح ، واختصاصيّة . وقد شرحنا كلّاً منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب بما نطيق فهمه ، فليرجع فيها إلى‏ مظانّها منه .

3 . ما الذي قاله عيسى‏ عليه السلام؟ وما الذي قيل فيه ؟

ذكر القرآن أنّ عيسى‏ كان عبداً رسولاً ، وأنّه لم يدّع لنفسه ما نسبوه إليه ، ولا تكلّم معهم إلّا بالرسالة ؛ كما قال تعالى : (وإذْ قالَ اللَّهُ يا عيسى‏ ابنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذوني واُمِّي إلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يكونُ لِي أنْ أقولَ ما لَيسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إلّا ما أمَرْتَنِي بهِ أنِ اعْبُدوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُم وكُنْتُ علَيهِم شَهيداً ما دُمْتُ فيهِم فلَمّا تَوَفَّيْتَني كُنْتَ أنْتَ الرَّقيبَ علَيْهِم وأنْتَ على‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ * إنْ تُعَذِّبْهُم فإنَّهُمْ عِبادُكَ

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 182798
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي