495
ميزان الحکمه المجلد الثامن

اختلافاً كثيراً ، وتعرّقوا في المشاجرة والنزاع ، والدليل على‏ ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لساناً .
بيان ذلك : أنّ التوراة والأناجيل الحاضرة جميعاً تصرّح بتوحيد الإله تعالى‏ من جانب ، والإنجيل يصرّح بالبنوّة من جانب آخر ، وصرّح بأنّ الابن هو الأب لا غير .
ولم يحملوا البنوّة الموجودة فيه علَى التشريف والتبريك ، مع ما في موارد منه من التصريح بذلك كقوله : «وأنا أقول لكم : أحِبّوا أعداءكم ، وباركوا على‏ لاعنيكم ، وأحسنوا إلى‏ من أبغضكم ، وصلوا على‏ من يطردكم ويعسفكم ؛ كيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ؛ لأنّه المُشرق شمسَه علَى الأخيار والأشرار ، والمُمطر علَى الصدّيقين والظالمين ، وإذا أحببتم من يحبّكم فأيّ أجر لكم ؟ أليس العشّارون يفعلون كذلك ؟ ! وإن سلّمتم على‏ إخوتكم فقط فأيّ فضل لكم ؟ أليس كذلك يفعل الوثنيّون ؟! كونوا كاملين مثل أبيكم السماويّ فهو كامل» آخر الإصحاح الخامس من إنجيل مَتّى‏ .۱
وقوله أيضاً : «فليضئ نوركم قُدّام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات» إنجيل متّى‏ ، الإصحاح الخامس .
وقوله أيضاً : «لا تصنعوا جميع مراحمكم قدّام الناس كي يروكم ، فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات» . وقوله أيضاً في الصلاة : «وهكذا تصلّون أنتم ، يا أبانا الذي في السماوات يتقدّس اسمك ... إلخ». وقوله أيضاً : «فإن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السماييّ خطاياكم» ، كلّ ذلك في الإصحاح السادس من إنجيل مَتّى‏ .

1.النسخة العربيّة المطبوعة سنة ۱۸۱۱ ميلاديّة ، وعنها ننقل جميع ما ننقله في هذا البحث عن كتب العهد العربيّة (كما في هامش المصدر).


ميزان الحکمه المجلد الثامن
494

إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إن شاء اللَّه تعالى‏ .
وأمّا ما قاله الناس في عيسى‏ عليه السلام ، فإنّهم وإن تشتّتوا في مذاهبهم بعده واختلفوا في مسالكهم بما ربّما جاوز السبعين من حيث كلّيّات ما اختلفوا فيه ، وجزئيّات المذاهب والآراء كثيرة جدّاً ، لكنّ القرآن إنّما يهتمّ بما قالوا به في أمر عيسى‏ نفسه واُمّه ؛ لمساسه بأساس التوحيد الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطريّ القويم ، وأمّا بعض الجزئيّات - كمسألة التحريف ، ومسألة التفدية - فلم يهتمّ به ذاك الاهتمام .
والذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبه إليهم ما في قوله تعالى‏ : (وقالَتِ النَّصارى‏ المَسيحُ ابْنُ اللَّهِ)۱وما في معناه كقوله تعالى‏ : (وقالوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ ولَداً سُبْحانَهُ)۲ ، وما في قوله تعالى‏ : (لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قالوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)۳ ، وما في قوله تعالى‏ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ)۴ ، وما في قوله تعالى‏ : (ولا تَقولوا ثَلاثَةٌ) .۵
وهذه الآيات وإن اشتملت بظاهرها على‏ كلمات مختلفة ذوات مضامين ومعان متفاوتة - ولذلك ربّما حُمِلت‏۶ على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانيّة القائلين بالبنوّة الحقيقية ، والنسطوريّة القائلين بأنّ النزول والبنوّة من قبيل إشراق النور على‏ جسم شفّاف كالبلّور ، واليعقوبيّة القائلين بأنّه من الانقلاب ، وقد انقلب الإله سبحانه لحماً ودماً - لكنّ الظاهر أنّ القرآن لايهتمّ بخصوصيّات مذاهبهم المختلفة ، وإنّما يهتمّ بكلمة واحدة مشتركة بينهم جميعاً وهو البنوّة ، وأنّ المسيح من سنخ الإله سبحانه ، وما يتفرّع عليه من حديث التثليث وإن اختلفوا في تفسيرها

1.التوبة : ۳۰ .

2.الأنبياء : ۲۶ .

3.المائدة : ۷۲ .

4.المائدة : ۷۳ .

5.النساء : ۱۷۱ .

6.كما فعله الشهرستانيّ في الملل والنحل. (كما في هامش المصدر).

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 182696
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي