589
ميزان الحکمه المجلد الثامن

معارف حقّة لا يرتاب ذو لبّ فيها وتضطرّ العقول إلى قبولها قد هدَى اللَّه النبيّ إليها ، فهو مؤمن بآيات اللَّه ؛ إذ لولم يكن مؤمناً لم يهده اللَّه واللَّه لا يهدي من لا يؤمن بآياته ، وإذ كان مؤمناً بآيات اللَّه فهو لا يفتري علَى اللَّه الكذب ؛ فإنّه لا يفتري عليه إلّا من لا يؤمن بآياته ، فليس هذا القرآن بمفترى‏ ، ولا مأخوذاً من بشر ومنسوباً إلَى اللَّه سبحانه كذباً .
فقوله : (لِسانُ الّذي يُلْحِدونَ إلَيهِ أعْجَميٌّ وهذا لِسانٌ عَرَبيٌّ مُبينٌ) جواب عن أوّل شقَّي الشبهة ؛ وهو أن يكون القرآن بلفظه مأخوذاً من بشر على‏ نحو التلقين . والمعنى‏ : أنّ لسان الرجل الذي يُلحدون - أي يميلون - إليه وينوونه بقولهم : (إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) أعجميّ أي غير فصيح بيّن ، وهذا القرآن المتلوّ عليكم لسان عربيّ مبين ، وكيف يُتصوّر صدور بيان عربيّ بليغ من رجل أعجميّ اللسان ؟
وقوله : (إنّ الّذِينَ لا يُؤمنونَ ...) إلى‏ آخر الآيتَين جواب عن ثاني شقّي الشبهة؛ وهو أن يتعلّم منه المعاني ثمّ ينسبها إلَى اللَّه افتراءً .
والمعنى‏ : أنّ الذين لا يؤمنون بآيات اللَّه ويكفرون بها لا يهديهم اللَّه إليه وإلى‏ معارفه الحقّة الظاهرة ولهم عذاب أليم ، والنبيّ صلى اللَّه عليه وآله مؤمن بآيات اللَّه لأنّه مهديّ بهداية اللَّه ، وإنّما يفتري الكذب وينسبه إلَى اللَّه الذين لا يؤمنون بآيات اللَّه واُولئك هم الكاذبون المستمرّون علَى الكذب ، وأمّا مِثل النبيّ صلى اللَّه عليه وآله المؤمن بآيات اللَّه فإنّه لا يفتري الكذب ولا يكذب ، فالآيتان كنايتان عن أنّ النبيّ صلى اللَّه عليه وآله مهديّ بهداية اللَّه مؤمن بآياته ، ومثله لا يفتري ولا يكذب .
والمفسّرون قطعوا الآيتين عن الآية الاُولى ، وجعلوا الآية الاُولى‏ هي الجواب الكامل عن الشبهة ، وقد عرفت أ نّها لا تفي بتمام الجواب .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
588

التّفسير :

قال العلّامة الطباطبائيّ في تفسير قوله تعالى‏ : (ولَقَدْ نَعْلَمُ أ نَّهُم يَقولونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) : «افتراء آخر منهم علَى النّبيّ صلى اللَّه عليه وآله وهو قولهم : (إنّما يُعلِّمُهُ بَشَرٌ) وهو - كما يلوّح إليه سياق اعتراضهم وما ورد في الجواب عنه - أ نّه كان هناك رجل أعجميّ غير فصيح في منطقه عنده شي‏ء من معارف الأديان وأحاديث النبوّة ربّما لاقاه النبيّ صلى اللَّه عليه وآله ، فاتّهموه بأ نّه يأخذ ما يدّعيه وحياً منه والرجل هو الذي يعلّمه ، وهو الذي حكاه اللَّه تعالى‏ من قولهم : (إنّما يُعَلّمُهُ بَشَرٌ) وفي القول إيجاز ، وتقديره : إنّما يعلّمه بشر وينسب ما تعلّمه منه إلَى اللَّه افتراءً عليه ، وهو ظاهر .
ومن المعلوم أنّ الجواب عنه بمجرّد أنّ لسان الرجل أعجميّ والقرآن عربيّ مبين لا يحسم مادّة الشبهة من أصلها ، لجواز أن يلقي إليه المطالب بلسانه الأعجميّ ثمّ يسبكها هو صلى اللَّه عليه وآله ببلاغة منطقه في قالب العربيّة الفصيحة ، بل هذا هو الأسبق إلَى الذهن من قولهم : (إنّما يُعلِّمُهُ بَشَرٌ) حيث عبّروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين والإملاء ، والتعليم أقرب إلَى المعاني منه إلَى الألفاظ .
وبذلك يظهر أنّ قوله : (لِسانُ الّذي يُلْحِدونَ إلَيهِ - إلى‏ قوله - مُبينٌ) ليس وحده جواباً عن شبهتهم ، بل ما يتلوه من الكلام إلى‏ تمام آيتين من تمام الجواب .
وملخّص الجواب مأخوذ من جميع الآيات الثلاث أنّ ما اتّهمتموه به أنّ بشراً يعلّمه ثمّ هو ينسبه إلَى اللَّه افتراءً إن أردتم أ نّه يعلّمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه وأنّ القرآن كلامه لا كلام اللَّه ، فجوابه أنّ هذا الرجل لسانه أعجميّ وهذا القرآن عربيّ مبين .
وإن أردتم أنّ الرجل يعلّمه معاني القرآن - واللفظ لا محالة للنبيّ صلى اللَّه عليه وآله - وهو ينسبه إلَى اللَّه افتراءً عليه ، فالجواب عنه أنّ الذي يتضمّنه القرآن

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 182923
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي