63
ميزان الحکمه المجلد الثامن

وأمّا المؤمن الذي رسخ في قلبه الإيمان ؛ فما تظهر منه من الطاعات والعبادات وكذا الحوادث التي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك ، ينطبق عليها مفهوم التوفيق والولاية الإلهيّة والهداية بالمعنَى الأخصّ نوع انطباقٍ ، قال تعالى‏ : (واللَّهُ يُؤيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشاءُ)۱ وقال :(واللَّهُ وليُّ المُؤمِنِينَ)۲وقال : (اللَّهُ وليُّ الّذينَ آمَنوا يُخْرِجُهُم مِن الظُّلُماتِ إلى‏ النُّورِ)۳وقال : (يَهْديهِم رَبُّهُم بإيمانِهِم)۴وقال : (أوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمشي بهِ في النّاسِ)۵، هذا إذا نسبت هذه الاُمور إلَى اللَّه سبحانه ، وأمّا إذا نسبت إلَى الملائكة فتسمّى‏ تأييداً وتسديداً منهم ، قال تعالى‏ : (اُولئكَ كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) .۶
ثمّ إنّه كما أنّ الهداية العامّة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلَى آخر أحيان وجودها مادامت سالكةً سبيل الرجوع إلَى اللَّه سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى‏ : (والّذي قَدَّرَ فَهَدى‏)۷، فإنّ المقادير التي تحملها العلل والأسباب المحتفّة بوجود الشي‏ء هي التي تحوّل الشي‏ء من حالٍ اُولى إلى‏ حال ثانية وهلمّ جرّاً ، فهي لاتزالُ تدفع الأشياء من ورائها .
وكما أنّ المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال - وهي آخر ما ينتهي إليه وجود الأشياء - تجذبها من أمامها ، كمايدلّ عليه قوله تعالى‏: (ما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرضَ ومابَيْنَهُما إلّا بالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمّى والّذين كَفَروا عَمّا اُنْذِروا مُعْرِضونَ)۸؛ فإنّ الآية تربط الأشياء بغاياتها وهي الآجال ، والشيئان المرتبطان إذا قوي أحدهما علَى الآخر كان حاله بالنسبة إلى‏ قرينه هو المسمّى‏ جذباً ، والآجال المسمّاة اُمور ثابتة غير متغيّرة ، فهي تجذب الأشياء من أمامها وهو ظاهر .

1.آل عمران : ۱۳ .

2.آل عمران : ۶۸ .

3.البقرة : ۲۵۷ .

4.يونس : ۹ .

5.الأنعام : ۱۲۲ .

6.المجادلة : ۲۲ .

7.الأعلى‏ : ۳ .

8.الأحقاف : ۳ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
62

توضيح ذلك : إنّ من لم يتّبع الدعوة الإلهيّة واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقّت عليه كلمة العذاب إن بقي على‏ تلك الحال ، فكلّ ما يستقبله من الحوادث المتعلّقة بها الأوامر والنواهي الإلهيّة ويخرج بها من القوّة إلَى الفعل تتمّ له بذلك فعليّة جديدة من الشقاء وإن كان راضياً بما عنده مغروراً بما يجده ، فليس ذلك إلّا مكراً إلهيّاً ؛ فإنّه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادةً لأنفسهم ويخيّب سعيهم فيما يظنّونه فوزاً لأنفسهم ، قال تعالى‏ : (ومَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيرُ الماكِرِينَ)۱وقال : (ولا يَحِيقُ المَكرُ السَّيّئُ إلّا بِأهلِهِ)۲ وقال : (لِيَمكُرُوا فِيها وَمايَمكُرُونَ إلّا بأنفُسِهِم ومايَشعُرُونَ)۳ وقال : (سَنَسْتَدرِجُهُم مِن حَيثُ لا يَعْلَمُونَ * واُمْلي لَهُم إنّ كَيْدي مَتِينٌ)۴ فما يتبجّح به المغرور الجاهل بأمر اللَّه أنّه سبق ربّه فيما أراده منه بالمخالفة والتمرّد فإنّه يعينه على‏ نفسه فيما أراده ، قال تعالى‏ : (أمْ حَسِبَ الذَّيِنَ يَعْمَلُونَ السّيّئاتِ أن يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحكُمُونَ)۵ ومن أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى‏ : (فَلِلّهِ المَكرُ جَمِيعاً) .۶
فجميع هذه المُماكرات والمخالفات والمظالم والتعدّيات - التي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلَى الوظائف الدينيّة ، وكلّ ما يستقبلهم من حوادث الأيّام ، ويظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم ، ودعتهم إلى‏ ذلك أهواؤهم - مكر إلهيّ وإملاء واستدراج ؛ فإنّ من حقّهم علَى اللَّه أن يهديهم إلى‏ عاقبة أمرهم وخاتمته وقد فعل ، واللَّه غالب على‏ أمره .
وهذه الاُمور بعينها إذا نسبت إلَى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواءً منه لهم ، والنزوع إليها دعوة ووسوسة ونزعة ووحياً وإضلالاً ، والحوادث الداعية ومايجري مجراها زينة له ووسائل وحبائل وشبكات منه على‏ ما سيجي‏ء بيانه في سورة الأعراف إن شاء اللَّه تعالى‏.

1.آل عمران : ۵۴ .

2.فاطر : ۴۳ .

3.الأنعام : ۱۲۳ .

4.الأعراف : ۱۸۲ ، ۱۸۳ .

5.العنكبوت : ۴ .

6.الرعد : ۴۲ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 179840
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي