65
ميزان الحکمه المجلد الثامن

مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فجَعَلْناهُ سَميعاً بَصيراً)1 وقال : (وَنبلُوَكُم بالشَّرِّ والخَيرِ فِتْنَةً)2، وكأنّه يريد به ما يفصّله قوله : (فأمَّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ * وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ علَيهِ رِزْقَهُ فيَقولُ رَبّي أهانَنِ)3 ، وقال : (إنَّما أمْوالُكُم وأوْلادُكُم فِتْنَةٌ)4وقال : (ولكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ)5، وقال : (كذلكَ نَبْلُوهُم بِما كانوا يَفْسُقونَ)6، وقال : (وَلِيُبْلِيَ المُؤمنينَ مِنهُ بَلاءً حَسَناً)7، وقال : (أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقولوا آمَنّا وهُم لايُفْتَنونَ * ولَقَدْ فَتَنّا الّذينَ مِن قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الّذينَ صَدَقوا وليَعْلَمَنَّ الكاذِبينَ) .8
وقال في مثل إبراهيم : (وإذِ ابْتَلى‏ إبراهيمَ ربُّهُ بكَلِماتٍ)9، وقال في قصّة ذبح إسماعيل : (إنّ هذا لَهُوَ البَلاءُ المُبينُ)10، وقال في موسى‏: (وفَتَنّاكَ فُتُوناً)11، إلى‏ غير ذلك من الآيات .
والآيات كما ترى‏ تعمّم المحنة والبلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده وأجزاء وجوده كالسمع والبصر والحياة ، والخارج من وجوده المرتبط به بنحوٍ كالأولاد والأزواج والعشيرة والأصدقاء والمال والجاه وجميع ما ينتفع به نوع انتفاعٍ ، وكذا مقابلات هذه الاُمور كالموت وسائر المصائب المتوجّهة إليه . وبالجملة : الآيات تعدّ كلّ ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم وأحوالها فتنةً وبلاءً من اللَّه سبحانه بالنسبة إليه .
وفيها تعميمٌ آخر من حيث الأفراد ؛ فالكلّ مُفَتَّنون مُبتَلَون من مؤمن أو كافر ، وصالح أو طالح ، ونبيّ أو من دونه ، فهي سنّة جارية لا يستثنى‏ منها أحد .
فقد بان أنّ سنّة الامتحان سنّة إلهيّة جارية ، وهي سنّة عمليّة متّكئة على‏ سنّة اُخرى‏ تكوينيّة ؛ وهي سنّة الهداية العامّة الإلهيّة من حيث تعلّقها بالمكلَّفين كالإنسان وما يتقدّمها وما يتأخّر عنها، أعني القدر والأجل كما مرّ بيانه .

1.الإنسان : ۲ .

2.الأنبياء : ۳۵ .

3.الفجر : ۱۵ ، ۱۶ .

4.التغابن : ۱۵ .

5.محمّد : ۴ .

6.الأعراف : ۱۶۳ .

7.الأنفال : ۱۷ .

8.العنكبوت : ۲ ، ۳ .

9.البقرة : ۱۲۴ .

10.الصافّات : ۱۰۶ .

11.طه : ۴۰ .


ميزان الحکمه المجلد الثامن
64

فالأشياء محاطة بقوىً إلهيّةٍ : قوّةٍ تدفعها ، وقوّةٍ تجذبها ، وقوّةٍ تصاحبها وتربّيها ، وهي القوَى الأصليّة التي يُثبتها القرآن الكريم غير القوَى الحافظة والرُّقَباء والقُرَناء كالملائكة والشياطين وغير ذلك .
ثمّ إنّا نسمّي نوع التصرّفات في الشي‏ء - إذا قُصد به مقصدٌ لا يظهر حاله بالنسبة إليه هل له صلوحه أوليس له؟ - بالامتحان والاختبار ؛ فإنّك إذا جهلت حال الشي‏ء أنّه هل يصلح لأمر كذا أو لايصلح ، أو علمت باطن أمره ولكن أردت أن يظهر منه ذلك، أوردت عليه أشياء ممّا يلائم المقصد المذكور حتّى‏ يظهر حاله بذلك: هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه ، وتسمّى ذلك امتحاناً واختباراً واستعلاماً لحاله أو ما يقاربها من الألفاظ . وهذا المعنى‏ بعينه ينطبق علَى التصرّف الإلهيّ بما يورده من الشرائع والحوادث الجارية على‏ اُولي الشعور والعقل من الأشياء كالإنسان ؛ فإنّ هذه الاُمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلَى المقصد الذي يُدعى‏ إليه الإنسان بالدعوة الدينيّة ؛ فهي امتحاناتٌ إلهيّةٌ .
وإنّما الفرق بين الامتحان الإلهيّ وما عندنا من الامتحان أنّا لا نخلو غالباً عن الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا ، واللَّه سبحانه يمتنع عليه الجهل وعنده مفاتح الغيب . فالتربية العامّة الإلهيّة للإنسان - من جهة دعوته إلى‏ حسن العاقبة والسعادة - امتحانٌ ؛ لأنّه يظهر ويتعيّن بها حال الشي‏ء أنّه من أهل أيّ الدارين دار الثواب أو دار العقاب ؟
ولذلك سمَّى اللَّه تعالى‏ هذا التصرّف الإلهيّ من نفسه - أعني التشريع وتوجيه الحوادث - بلاءً وابتلاءً وفتنةً ، فقال بوجهٍ عامّ : (إنّا جَعَلْنا ما علَى الأرضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُم أيُّهُم أحْسَنُ عَمَلاً)1وقال : (إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ

1.الكهف : ۷ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 179730
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي