ومن هنا يظهر أنّها غير قابلة للنسخ ؛ فإنّ انتساخها عين فساد التكوين وهو محال . ويشير إلى ذلك ما يدلّ من الآيات على كون الخلقة علَى الحقّ ، وما يدلّ على كون البعث حقّاً ، كقوله تعالى : (ما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرضَ وَما بَيْنَهُما إلّا بالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمّىً)1، وقوله تعالى : (أفَحَسِبْتُمْ أنّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وأنَّكُمْ إلَيْنا لاتُرْجَعونَ)2، وقوله تعالى : (ومَا خَلَقْنا السَّماواتِ والأرضَ ومَابَيْنَهُما لاعِبِينَ * مَا خَلَقْناهُما إلّا بالحَقِّ ولكنَّ أكْثَرَهُم لا يَعْلَمونَ)3، وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ فإنَّ أجَلَ اللَّهِ لَآتٍ)4 إلى غيرها ؛ فإنّ جميعها تدلّ علَى أنّ الخلقة بالحقّ وليست باطلة مقطوعة عن الغاية . وإذا كانت أمام الأشياء غايات وآجال حقّة ومن ورائها مقادير حقّة ومعها هداية حقّة فلامناص عن تصادمها عامّةً ، وابتلاء أرباب التكليف منها خاصّة باُمورٍ يخرج بالاتّصال بها ما في قوّتها من الكمال والنقص والسعادة والشقاء إلَى الفعل ، وهذا المعنى في الإنسان المكلّف بتكليف الدِّين امتحان وابتلاء ، فافهم ذلك .
ويظهر ممّا ذكرناه معنَى المَحق والتمحيص أيضاً ؛ فإنّ الامتحان إذا ورد علَى المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل ، أو ورد علَى الجماعة فاقتضَى امتياز المؤمنين من المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ ، صدق عليه اسم التمحيص وهو التمييز .
وكذا إذا توالت الامتحانات الإلهيّة علَى الكافر والمنافق وفي ظاهرهما صفات وأحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجاً ظهور مافي باطنهما من الخبائث ، وكلّما ظهرت خبيثةٌ أزالت فضيلةً ظاهريّة كان ذلك محقاً له أي إنفاداً تدريجيّاً لمحاسنها ، قال تعالى : (وتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَينَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الّذينَ آمَنوا ويَتَّخِذَ مِنْكُم شُهَدآءَ واللَّهُ لايُحِبُّ الظّالِمينَ * ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الّذينَ