الفصل السادس : السير التاريخي لمراسم عزاء الإمام الحسين ۱
لا شكّ ولا ريب أنّ فاجعة كربلاء الدموية حادثة عظيمة ومؤثّرة في التاريخ الإسلامي ، فينبغي السعي من أجل إحيائها ، وأنّ إقامة العزاء على شهداء هذه الملحمة هو من أهمّ الخطوات في هذا السبيل .
والذي يشهده الواقع هو أنّ البراعم الاُولى لإقامة العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام وأصحابه الميامين كانت عند وقوع هذه الحادثة الأليمة ، ثمّ نالت اهتمام الإمرار بشكل متوالي حتى أخذت شكلاً خاصّاً . فيجدر بنا أن نشير إلى منعطفاتها خلال المقاطع التاريخية المختلفة .
يمكن أن نتناول مراسم العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام بالدراسة والنقد والتحليل على عدّة مراحل تاريخيّة ، هي :
المرحلة الاُولى (بعد شهادة الإمام وحتّى هلاك قاتليه)
كان هدف أهل البيت عليهم السلام منصبّاً في هذه المرحلة على السعي من أجل إيقاظ الضمائر النائمة ، وفتح الأذهان المغلقة ، وتحرير الأفكار المكبّلة بالإعلام الواسع لبني اُميّة .
وعلى سبيل المثال، فإنّ أهالي الكوفة عند رؤيتهم اُسارى أهل بيت النبيّ صلى اللَّه عليه وآله ، وعند استماعهم إلى الخطب الملحميّة لأهل بيت الرسالة - والتي ذكّرتهم بأيّام تواجدهم في الكوفة والذي امتدّ لعدّة سنوات من جانب ، والتي بعثت فيهم الوعي والحماس إلى حدٍّ بعيد من جانب آخر ۲ - ضجّوا بالبكاء والعويل بحيث اهتزت المدينة ببكائهم .
وبعد حضور الأسرى في الشام - والذي أدّى إلى نشر الوعي وفضح السياسات الاُمويّة ، ولم يسلم من آثاره من كان في قصر الخلافة أيضاً ۳ - سمحت الحكومة بإقامة مراسم العزاء لاعتبارات سياسية .
وبالإضافة إلى ذلك فقد أقام موكب السبايا عند عودته من الشام إلى المدينة، مجلس العزاء عند مزار الإمام عليه السلام وأصحابه . ۴ كما ضجّت المدينة بالبكاء والعويل عند سماع صوت بكاء اُمّ سلمة زوج النبيّ صلى اللَّه عليه وآله التي سمعت باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في الرؤيا ۵ ( أو عن طريق التربة التي أودعها النبيّ صلى اللَّه عليه وآله لديها، والتي تحوّلت إلى دمٍ استناداً لروايةٍ اُخرى) . ۶ وعندما ذاع خبر شهادة الإمام عليه السلام بشكلٍ رسمي من قبل بني اُميّة في المدينة، حوّلت اُمّ سلمة ۷ وأهالي المدينة المدينة إلى كتلة واحدة من المآتم والعزاء ، وأقاموا مجالس العزاء ۸ ، كما أقام بنو هاشم العزاء على سيّد الشهداء ، ۹ كما جلس للحداد عليه ابن عبّاس ومحمّد بن الحنفيّة ، ۱۰ ، وبنات عقيل ۱۱ ، وجعلت نساء بني هاشم محلاًّ خاصّاً للعزاء . ۱۲
كما ينبغي أن لا ننسى إقامة أهل المدينة العزاء عند عودة أهل بيت النبيّ صلى اللَّه عليه وآله ، ۱۳ وعزاء زوجات الإمام عليه السلام ، ۱۴ وكذلك العزاء الذي أقامته اُمّ البنين لأولادها في البقيع . ۱۵ ويجب أن نضيف إلى كلّ ذلك مراثي وحداد بني هاشم ، والذي كانوا يقيمونه يوميّاً خلال عام الشهادة في ذكرى شهادة الإمام الحسين عليه السلام حتّى ثلاث أعوام في المدينة ، ۱۶ وكان يشارك فيه بعض الصحابة والتابعين أيضاً ، ۱۷ ولبس أهل بيت الإمام عليه السلام ملابسَ الحزن ، ۱۸ ومواصلة الأحزان والمآتم حتّى موت ابن زياد ، ۱۹ وتعاطف بعض الأصحاب والتابعين معهم ؛ ۲۰ كلّ ذلك خلق أجواء تمخّضت عن نشوء حركة «التوّابين»، حيث بدأوا مسيرتهم باتّجاه الشام ومحاربة قتلة الإمام الحسين عليه السلام ، بالتجمّع عند قبر الإمام عليه السلام وأصحابه وأقامة العزاء ، ثمّ واصلوا مسيرهم ۲۱ . ۲۲
1.أعدّ هذا التحليل قسم السيرة والتاريخ في مركز أبحاث دار الحديث. ونحن نقدّم شكرنا الجزيل لحضرة الفاضل محمّد حسين صالح آبادي، الذي أعدّ المعلومات الأوّلية، وكذلك المحقّق المحترم حجّة الإسلام والمسلمين الدكتور محمّد علي مهدوي راد الذي تولّى تنظيمه النهائي .
2.راجع : ج ۲ ص ۴۰۸ ( القسم السادس / الفصل السادس / كيفية دخول حرم الرسول صلى اللَّه عليه وآله الكوفة ) وص ۴۱۰ ( خطبة زينب عليها السلام في أهل الكوفة ) وص ۴۱۶ ( خطبة فاطمة الصغرى في أهل الكوفة ) وص ۴۱۹ ( خطبة اُمّ كلثوم في أهل الكوفة ) .
3.راجع : ج ۲ ص ۵۲۰ ( القسم السابع / الفصل السادس / خطبة علي بن الحسين عليه السلام في مسجد دمشق ) و ص ۵۲۷ ( احتجاج نساء يزيد عليه ) وص ۵۳۵ ( الفصل الثامن / إذن إقامة المأتم للشهداء ) .
4.راجع : ج ۲ ص ۵۴۴ ( القسم السادس / الفصل الثامن / مرور آل الرسول صلى اللَّه عليه وآله على كربلاء ) .
5.راجع : ج ۲ ص ۳۰۱ ( القسم السادس / الفصل الثاني / رؤيا اُمّ سلمة ) .
6.في رواية تاريخ اليعقوبي (ج ۲ ص ۲۴۵) : إنّ سبب بكائها هو تحول التربة التي كانت عندها إلى دم، حيث إنّ النبي صلى اللَّه عليه وآله، أودعها عندها علامة على شهادة الحسين عليه السلام في المستقبل (راجع : هذا الكتاب : ج ۲ ص ۷۴۴ « الفصل الأوّل / أوّل صارخة صرخت في المدينة» ) .
7.راجع : ج ۲ ص ۷۵۱ ( الفصل الأوّل / أوّل من لبس السواد في مأتم الحسين عليه السلام / اُمّ سلمة ) .
8.راجع : ج ۲ ص ۶۳۶ ( القسم السابع / الفصل الرابع / صدى قتله في الحجاز ) وص ۷۴۵ ( القسم الثامن / الفصل الأوّل / إقامة المأتم في المدينة / حين وصل الخبر ) .
9.راجع : ج ۲ ص ۷۴۵ ( الفصل الأوّل / إقامة المأتم في المدينة / حين وصل الخبر ) .
10.راجع : ج ۲ ص ۸۱۲ ( الفصل الرابع / بكاء عدّة من الصحابة والتابعين ) وص ۵۸۹ ( القسم السابع / الفصل الأوّل / عبداللَّه بن العبّاس ) .
11.راجع : ج ۲ ص ۷۵۲ ( الفصل الأوّل / أوّل من لبس السواد في مأتم الحسين عليه السلام / نساء بني هاشم ) .
12.الأماليللشجري : ج ۱ ص ۱۷۵، تذكرة الخواصّ : ص ۲۶۵ وراجع : هذا الكتاب : ج ۲ ص ۷۳۹ ( الفصل الأوّل / رثاء الرباب ) .
13.راجع : ج ۲ ص ۷۵۰ ( الفصل الأوّل / إقامة المأتم في المدينة / ندبة اُمّ البنين) .
14.راجع : ج ۲ ص ۷۵۰ (الفصل الأوّل / إقامة المأتم في المدينة / النياحة عليه ثلاث سنين) .
15.كتاب المجالس والمسائرات للقاضي النعمان : ص ۱۰۳.
16.راجع : ج ۲ ص ۷۵۱ ( الفصل الأوّل / أوّل من لبس السواد في مأتم الحسين عليه السلام ) .
17.راجع : ج ۲ ص ۷۵۰ ( الفصل الأوّل / إقامة المأتم في المدينة / استمرار مأتم أهل البيت إلى قتل ابن زياد ) .
18.راجع : ج ۲ ص ۸۱۲ ( الفصل الرابع / بكاء عدّة من الصحابة والتابعين ) .
19.تاريخ الطبري : ج ۵ ص ۵۸۹ .
20.ذكرنا فيما سبق أنّ حادثة كربلاء كانت عظيمة على المسلمين وسبباً لحزنهم العميق ، وأمّا بالنسبة لبني هاشم فقد تركت عليهم أثراً كبيراً بحيث إنّهم بقوا في حال الحزن والعزاء حتّى هلاك ابن زياد ، فهل إنّ هذا بسبب تأثّرهم بآداب العرب آنذاك حيث كانوا يديمون العزاء والحزن على المقتول حتى موت القاتل ؟ لا يبعد ذلك . وعلى أيّ حال فإنّ أهل البيت عليهم السلام خلال هذه السنوات الخمس أو الستّ جعلوا العزاء أمراً عادياً ، وهذا ما هيّأ الأرضية الفكرية والثقافية والجهادية المناسبة ، الأمر الذي اُضيف له دعم أهل البيت عليهم السلام وتوجيههم، فتحوّل إلى شعائر مذهبية ذات مغزى وقيمة عالية، والتي ستأتي الإشارة إليها فيما بعد .