593
الصّحیح من مقتل سیّد الشّهداء و أصحابه علیهم السّلام

الصّحیح من مقتل سیّد الشّهداء و أصحابه علیهم السّلام
592

۵۹۷.الفتوح : دَخَلَ الحُسَينُ عليه السلام إلى‏ مَكَّةَ ، فَفَرِحَ بِهِ أهلُها فَرَحاً شَديداً ، قالَ : وجَعَلوا يَختَلِفونَ إلَيهِ بُكرَةً وعَشِيَّةً ، وَاشتَدَّ ذلِكَ عَلى‏ عَبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيرِ ؛ لِأَنَّهُ قَد كانَ طَمِعَ أن يُبايِعَهُ أهلُ مَكَّةَ ، فَلَمّا قَدِمَ الحُسَينُ عليه السلام شَقَّ ذلِكَ عَلَيهِ ، غَيرَ أنَّهُ لا يُبدي ما في قَلبِهِ إلَى الحُسَين عليه السلام ، لكِنَّهُ يَختَلِفُ إلَيهِ ويُصَلّي بِصَلاتِهِ ، ويَقعُدُ عِندَهُ ويَسمَعُ مِن حَديثِهِ ، و هُوَ مَعَ ذلِكَ يَعلَمُ أنَّهُ لا يُبايِعُهُ أحَدٌ مِن أهلِ مَكَّةَ وَالحُسَينُ بنُ عَلِيٍّ عليه السلام بِها ؛ لِأَنَّ الحُسَينُ عليه السلام عِندَهُم أعظَمُ في أنفُسِهِم مِنِ ابنِ الزُّبَيرِ .
قالَ : وبَلَغَ ذلِكَ أهلَ الكوفَةِ أنَّ الحُسَينَ بنَ عَلِيٍّ عليه السلام قَد صارَ إلى‏ مَكَّةَ . وأقامَ الحُسَينُ عليه السلام بِمَكَّةَ باقِيَ شَهرِ شَعبانَ ورَمَضانَ وشَوّالَ وذِي القِعدَةِ .
قالَ : وبِمَكَّةَ يَومَئِذٍ عَبدُ اللَّهِ بنُ عَبّاسٍ و عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ ، فَأَقبَلا جَميعاً حَتّى‏ دَخَلا عَلَى الحُسَينِ عليه السلام ، وقَد عَزَما عَلى‏ أن يَنصَرِفا إلَى المَدينَةِ ، فَقالَ لَهُ ابنُ عُمَرَ : أبا عَبدِ اللَّهِ رَحِمَكَ اللَّهُ ، اِتَّقِ اللَّهَ الَّذي إلَيهِ مَعادُكَ ، فَقَد عَرَفتَ مِن عَداوَةِ أهلِ هذَا البَيتِ لَكُم ، وظُلمَهُم إيّاكُم ، وقَد وَلِيَ النّاسَ هذَا الرُّجُلُ يَزيدُ بنُ مُعاوِيَةَ ، ولَستُ آمَنُ أن يَميلَ النّاسُ إلَيهِ لِمَكانِ هذِهِ الصَّفراءِ وَالبَيضاءِ ، فَيَقتُلونَكَ ويَهلِكُ فيكَ بَشَرٌ كَثيرٌ ؛ فَإِنّي قَد سَمِعتُ رَسولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله وهُوَ يَقولُ : «حُسَينٌ مَقتولٌ ، ولَئِن قَتَلوهُ وخَذَلوهُ ولَن يَنصُروهُ ، لَيَخذُلُهُمُ اللَّهُ إلى‏ يَومِ القِيامَةِ» .
وأنَا اُشيرُ عَلَيكَ أن تَدخُلَ في صُلحِ ما دَخَلَ فيهِ النّاسُ ، وَاصبِر كَما صَبَرتَ لِمُعاوِيَةَ مِن قَبلُ ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أن يَحكُمَ بَينَكَ وبَينَ القَومِ الظّالِمينَ .
فَقالَ لَهُ الحُسَينُ عليه السلام : أبا عَبدِ الرَّحمنِ ! أنَا اُبايِعُ يَزيدَ وأدخُلُ في صُلحِهِ ! وقَد قالَ النَّبِيُّ صلى اللَّه عليه وآله فيهِ وفي أبيهِ ما قالَ؟!
فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : صَدَقتَ أبا عَبدِ اللَّهِ ! قالَ النَّبِيُّ صلى اللَّه عليه وآله في حَياتِهِ : «ما لي ولِيَزيدَ ؟ لا بارَكَ اللَّهُ في يَزيدَ ! وإنَّهُ يَقتُلُ وَلَدِي ووَلَدَ ابنَتِيَ الحُسَينَ ، وَالَّذي نَفسي بِيَدِهِ ، لا يُقتَلُ وَلَدي بَينَ ظَهرانَي قَومٍ فَلا يَمنَعونَهُ ، إلّا خالَفَ اللَّهُ بَينَ قُلوبِهِم وألسِنَتِهِم» .
ثُمَّ بَكَى ابنُ عَبّاسٍ ، وبَكى‏ مَعَهُ الحُسَينُ عليه السلام ، وقالَ : يَا بنَ عَبّاسٍ ، تَعلَمُ أنِّي ابنُ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله ؟ فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : اللَّهُمَّ نَعَم ، نَعلَمُ ونَعرِفُ أنَّ ما فِي الدُّنيا أحَدٌ هُوَ ابنُ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله غَيرُكَ ، وأنَّ نَصرَكَ لَفَرضٌ عَلى‏ هذِهِ الاُمَّةِ ، كَفَريضَةِ الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ الَّتي لا يُقدَرُ أن يُقبَلَ أحَدُهُما دونَ الاُخرى‏ .
قالَ الحُسَينُ عليه السلام : يَابنَ عَبّاسٍ ، فَماتَقولُ في قَومٍ أخرَجُوا ابنَ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله مِن دارِهِ وقَرارِهِ ، ومَولِدِهِ وحَرَمِ رَسولِهِ ، ومُجاوَرَةِ قَبرِهِ ومَولِدِهِ ، ومَسجِدِهِ ومَوضِعِ مُهاجَرِهِ ، فَتَرَكوهُ خائِفاً مَرعوباً لا يَستَقِرُّ في قَرارٍ ، ولا يأوي في مَوطِنٍ ، يُريدونَ في ذلِكَ قَتلَهُ وسَفكَ دَمِهِ ، وهُوَ لَم يُشرِك بِاللَّهِ شَيئاً ، ولَا اتَّخَذَ مِن دونِهِ وَلِيّاً ، ولَم يَتَغَيَّر عَمّا كانَ عَلَيهِ رَسولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله وَالخُلَفاءُ مِن بَعدِهِ ؟
فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : ما أقولُ فيهِم إلّا (أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى‏)۱(يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَ لِكَ لَا إِلَى‏ هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى‏ هَؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)۲ وعَلى‏ مِثلِ هؤُلاءِ تَنزِلُ البَطشَةُ الكُبرى‏ .
وأمّا أنتَ يَا بنَ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله ، فَإِنَّكَ رَأسُ الفَخارِ بِرَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله ، وَابنُ نَظيرَةِ البَتولِ ۳ ، فَلا تَظُنَّ يَا بنَ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله أنَّ اللَّهَ غافِلٌ عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ ، وأنَا أشهَدُ أنَّ مَن رَغِبَ عَن مُجاوَرَتِكَ ، وطَمِعَ في مُحارَبَتِكَ ومُحارَبَةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى اللَّه عليه وآله ، فَما لَهُ مِن خَلاقٍ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : اللَّهُمَّ اشهَد ! فَقالَ ابنُ عَبّاسٍ : جُعِلتُ فِداكَ يَا بنَ بِنتِ رَسولِ اللَّهِ ! كَأَنَّكَ تُريدُني إلى‏ نَفسِكَ ، وتُريدُ مِنّي أن أنصُرَكَ ! وَاللَّهِ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ ، أن لَو ضَرَبتُ بَينَ يَدَيكَ بِسَيفي هذا حَتّى‏ انخَلَعَ جَميعاً مِن كَفّي ، لَما كُنتُ مِمَّن اُوفي مِن حَقِّكَ عُشرَ العُشرِ ، وها أنَا بَينَ يَدَيكَ ، مُرني بِأَمرِكَ .
فَقالَ ابنُ عُمَرَ : مَهلاً ! ذَرنا مِن هذا يَا بنَ عَبّاسٍ . قالَ : ثُمَّ أقبَلَ ابنُ عُمَرَ عَلَى الحُسَينِ عليه السلام ، فَقالَ : أبا عَبدِ اللَّهِ ، مَهلاً عَمّا قَد عَزَمتَ عَلَيهِ ، وَارجِع مِن هُنا إلَى المَدينَةِ ، وَادخُل في صُلحِ القَومِ ، ولا تَغِب عَن وَطَنِكَ وحَرَمِ جَدِّكَ رَسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله ، ولا تَجعَل لِهؤُلاءِ الَّذينَ لا خَلاقَ لَهُم عَلى‏ نَفسِكَ حُجَّةً وسَبيلاً ، وإن أحببَتَ ألّا تُبايِعَ فَأَنتَ مَتروكٌ حَتّى‏ تَرى‏ بِرَأيِكَ ، فَإِنَّ يَزيدَ بنَ مُعاوِيَةَ عَسى‏ ألّا يَعيشَ إلّا قَليلاً ، فَيَكفِيَكَ اللَّهُ أمرَهُ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : اُفٍّ لِهذَا الكَلامِ أبَداً مادامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ ، أسأَلُكَ بِاللَّهِ يا عَبدَ اللَّهِ ، أنَا عِندَكَ عَلى‏ خَطَأٍ مِن أمري هذا ؟ فَإِن كُنتُ عِندَكَ عَلى‏ خَطَأٍ فَرُدَّني ، فَإِنّي أخضَعُ وأسمَعُ واُطيعُ .
فَقالَ ابنُ عُمَرَ : اللَّهُمَّ لا ، ولَم يَكُنِ اللَّهُ تَعالى‏ يَجعَلُ ابنَ بِنتِ رَسولِهِ عَلى‏ خَطَأٍ ، ولَيسَ مِثلُكَ مِن طَهارَتِهِ وصَفوَتِهِ مِنَ الرَّسولِ صلى اللَّه عليه وآله عَلى‏ مِثلِ يَزيدَ بنِ مُعاوِيَةَ بِاسمِ الخِلافَةِ ، ولكن أخشى‏ أن يُضرَبَ وَجهُكَ هذَا الحَسَنُ الجَميلُ بِالسُّيوفِ ، وتَرى‏ مِن هذِهِ الاُمَّةِ ما لا تُحِبُّ ، فَارجِع مَعَنا إلَى المَدينَةِ ، وإن لَم تُحِبَّ أن تُبايِعَ ، فَلا تُبايِع أبداً وَاقعُد في مَنزِلِكَ .
فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام : هَيهاتَ يَا بنَ عُمَرَ ، إنَّ القَومَ لا يَترُكونّي ، وإن أصابوني وإن لَم يُصيبوني فَلا يَزالونَ حَتّى‏ اُبايِعَ وأنَا كارِهٌ ، أو يَقتُلوني ، أما تَعلَمُ يا عَبدَ اللَّهِ ، أنَّ مِن هَوانِ هذِهِ الدُّنيا عَلَى اللَّهِ تَعالى‏ أنَّهُ اُتِيَ بِرَأسِ يَحيَى بنِ زَكَرِيّا عليه السلام إلى‏ بَغِيَّةٍ مِن بَغايا بَني إسرائيلَ ، وَالرَّأسُ يَنطِقُ بِالحُجَّةِ عَلَيهِم ؟! أما تَعلَمُ أبا عَبدِ الرَّحمنِ ، أنَّ بَني إسرائيلَ كانوا يَقتُلونَ ما بَينَ طُلوعِ الفَجرِ إلى‏ طُلوعِ الشَّمسِ سَبعينَ نَبِيّاً ، ثُمَّ يَجلِسونَ في أسواقِهِم يَبيعونَ ويَشتَرونَ كُلُّهُم كَأَنَّهُم لَم يَصنَعوا شَيئاً؟! فَلَم يُعَجِّلِ اللَّهُ عَلَيهِم ، ثُمَّ أخَذَهُم بَعدَ ذلِكَ أخذَ عَزيزٍ مُقتَدِرٍ . اِتَّقِ اللَّهَ أبا عَبدِ الرَّحمنِ ولا تَدَعَنَّ نُصرَتي ... .
ثُمَّ أقبَلَ الحُسَينُ عليه السلام عَلى‏ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَبّاسٍ ، فَقالِ : يَا بنَ عَبّاسٍ ، إنَّكَ ابنُ عُمِّ والِدي ، ولَم تَزَل تَأمُرُ بِالخَيرِ مُنذُ عَرَفتُكَ ، وكُنتَ مَعَ والِدي تُشيرُ عَلَيهِ بِما فيهِ الرَّشادُ ، وقَد كانَ يَستَنصِحُكَ ويَستَشيرُكَ فُتُشيرُ عَلَيهِ بِالصَّوابِ ، فَامضِ إلَى المَدينَةِ في حِفظِ اللَّهِ وكَلائِهِ ، ولا يَخفى‏ عَلَيَّ شَي‏ءٌ مِن أخبارِكَ ، فَإِنّي مُستَوطِنٌ هذَا الحَرَمَ ، ومُقيمٌ فيهِ أبَداً ما رَأَيتُ أهلَهُ يُحبّونّي ويَنصُرونّي ، فَإِذا هُم خَذَلونِي استَبدَلتُ بِهِم غَيرَهُم ، وَاستَعصَمتُ بِالكَلِمَةِ الَّتي قالَها إبراهيمُ الخَليلُ عليه السلام يَومَ اُلقِيَ فِي النّارِ : «حَسِبيَ اللَّهُ ونِعمَ الوَكيلُ» فَكانَتِ النّارُ عَلَيهِ بَرداً وسَلاماً .
قالَ : فَبَكَى ابنُ عَبّاسٍ وابنُ عُمَرَ في ذلِكَ الوَقتِ بُكاءً شَديداً ، وَالحُسَينُ عليه السلام يَبكي مَعَهُما ساعَةً ، ثُمَّ وَدَّعَهُما ، وصارَ ابنُ عُمَرَ وَابنُ عَبّاسٍ إلَى المَدينَةِ ، وأقامَ الحُسَينُ عليه السلام بِمَكَّةَ . ۴

1.التوبة : ۵۴ .

2.النساء : ۱۴۲ و ۱۴۳ .

3.المقصود هنا فاطمة عليها السلام ، والمقصود بالبتول مريم العذراء عليها السلام .

4.الفتوح : ج ۵ ص ۲۳ ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج ۱ ص ۱۹۰ .

  • نام منبع :
    الصّحیح من مقتل سیّد الشّهداء و أصحابه علیهم السّلام
عدد المشاهدين : 346051
الصفحه من 850
طباعه  ارسل الي